«فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلًا: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ»
نورهات حفتارو
بعد غزة ولبنان وسوريا، بدأت إسرائيل عملية عسكرية جديدة تحت مسمى «الأسد الصاعد» ضد إيران، بهدف تفكيك برنامجها النووي والصاروخي الباليستي، وفق ما صرّح به مسؤولون إسرائيليون. وردّت إيران بإطلاق مئات الصواريخ، معلنةً عن عمليتها المضادة المسماة «الوعد الصادق 3». ولا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت هذه المواجهة ستؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار النظام الإيراني.
أسفرت هذه المواجهات عن تصعيد حاد في الأوضاع العسكرية والأمنية في الشرق الأوسط، ما ينذر باحتمال اندلاع صراع إقليمي واسع. وتبدو لهذه الحرب تداعيات استراتيجية عميقة على المنطقة، خصوصاً في ظل تصاعد خطاب إعادة تشكيل «شرق أوسط جديد» وفقاً لرؤية نتنياهو التوراتية، التي تنطوي على نزعة استعمارية متغطرسة.
وهنا يبرز سؤال مصيري: لماذا تتوالى هذه الحروب؟ ولماذا يفشل الشرق الأوسط في تحقيق سلام مستدام؟ وقبل كل شيء: متى تنتهي حروب الشرق الأوسط وأي قدر ينتظرها؟
الشرق الأوسط
الشرق الأوسط مصطلح جغرافي استخدمه البريطانيون لأول مرة في القرن التاسع عشر، ثم الأمريكيون في بدايات القرن العشرين. نحن نتحدث عن منطقة جغرافية تُقدّر مساحتها بأكثر من 7.5 مليون كيلومتر مربع، وتقع عند ملتقى قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، بين شرق البحر المتوسط والخليج العربي، وتمتد من تركيا شمالاً إلى اليمن جنوباً، ومن إيران شرقاً إلى مصر غرباً. وتضم أكبر احتياطات النفط والغاز في العالم، وأهم أنهار العالم، مثل الفرات ودجلة والنيل.
تُعرف بأنها مهد الحضارة والثورة الزراعية. فيها تشكّلت أول قرية، وأول مدينة، وأول دولة، وأول طبقة اجتماعية. إنها مهد الأديان، حيث أُسّست فيها أول عقيدة، ومنها بدأت الأديان الإبراهيمية وانتشرت. لعبت دور المركز الحضاري لآلاف السنين، وكأي حضارة بشرية، فإنها مليئة بالتناقضات والانقسامات والصراعات على مستوى الأفكار والعقائد والبُنى الاجتماعية.
لكن، ومنذ أكثر من 150 عاماً، فقدت هذه الجغرافيا موقعها «كمركز» في النظام العالمي، وتحولت، بفعل تناقضاتها الداخلية، وعدم قدرتها على الإصلاح، إضافة إلى الحملات الاستعمارية الخارجية، إلى منطقة «طرفية». ومنذ ذلك الحين، لم تهدأ الحروب، سواء الساخنة أو الباردة، في الإقليم. بل ازدادت النزاعات الداخلية والخارجية، بالتوازي مع صعود النظام الغربي المهيمن على العالم، وتأسيس أول دولة قومية في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى. وقد خلّف القرن العشرون وراءه إبادات جسدية وثقافية مروّعة بحق شعوب المنطقة، مثل الأرمن، والسريان/الآشوريين، والإيونيين، والكرد، وكل ذلك على مذبح مصالح القوى الدولية، وفي سبيل ترسيخ دول قومية تحوّلت إلى عبء على مجتمعات المنطقة وثقافاتها.
من المفارقات اللافتة أن الإعلام العربي والإيراني يصف إسرائيل بـ«الكيان المصطنع»، وكأن بقية دول المنطقة – التي يبلغ عددها نحو 17 دولة – قد نشأت بشكل طبيعي أو تلقائي! فمعظم هذه الدول وُلدت على طاولات المفاوضات الاستعمارية، بخطوط قلم ومسطرة، لا على أرضية تاريخية متماسكة أو إرادة شعبية حرة. وقد شهدت هذه الكيانات الوليدة، منذ تأسيسها، سلسلة من الانتهاكات بحق شعوبها، إضافة إلى صراعات داخلية وخارجية عبثية في مرحلة ما بعد الاستعمار. تأسست هذه الدول برعاية القوى الاستعمارية، لتخدم مصالح تلك القوى، وبات استمرار وجودها واستقرارها مشروطاً ببقاء إسرائيل وأمنها، بل وبالقبول الفعلي بهيمنتها المتزايدة على الإقليم، بل بـ«هيمنتها المطلقة» حسب مشروع اليمين المتطرف الإسرائيلي الحالي.
وفي وقتنا الراهن، تستمر هذه الحرب العبثية، ضمن اصطفافات إقليمية وتحالفات دولية، تتجسّد في إسرائيل كقوة إقليمية مهيمنة ذات نفوذ عالمي كبير، متفوقة في مجالات العلم والتكنولوجيا والنظام السياسي، وفي إيران، التي تسعى إلى دور إقليمي وحصة أكبر عبر منظومة دينية مهترئة، وبقايا من قومية القرن العشرين.
بعبارة أخرى، لا تمثل إيران قوة مقاومة حقيقية، ولا يمكن وصف إسرائيل بأنها «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط». نحن أمام حرب عبثية، تغذيها فانتازيا دينية، ومصالح رأسمالية، وهوس بالهيمنة الكلية والنفوذ الأمني.
هيمنة مطلقة
قبل يومٍ واحدٍ من عملية «الأسد الصاعد»، وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورقة مكتوبة بخطّ يده في شقٍّ على حائط البراق في القدس. ولاحقاً، نشر مكتب نتنياهو صورةً للورقة، وقد كُتب عليها: «سينتفض الشعب كالأسد». وهذا التعبير مذكور في التوراة، في سفر العدد: «هو ذا شعب يقوم كلبوة، ويرتفع كأسد. لا ينام حتى يأكل فريسةً ويشرب دم قتلى».
وكما تفعل تركيا وإيران وبعض الدول العربية، التي تمنح مسوغات دينية لحروبها ومصالحها، تحت مسمى «الدفاع عن أهل البيت»، و«الحرب في سبيل الأمة»، و«نحن أحفاد بني أمية»، فإنّ اليمين الإسرائيلي، بالمثل، بل بشكلٍ مفرط، يستند إلى الشيفرات الدينية الواردة في التوراة لتبرير الحروب التي يشنّها في الشرق الأوسط. ولطالما استخدم القادة في الحكومة الإسرائيلية تعبيراتٍ مقتبسة من النصوص التوراتية.
ويُقال إنّ اليمين المتطرف الإسرائيلي، بقيادة بنيامين نتنياهو، يسعى لإقامة دولة «إسرائيل الكبرى»، التي تشمل أجزاءً واسعة من سوريا ولبنان والأردن والعراق. ويُشار إلى ذلك كأمرٍ من الربّ لبني إسرائيل، كما ورد في التوراة: «فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلًا: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ».
وتشير المعطيات إلى أنّ اليمين المتطرف يسعى إلى فرض الهيمنة السياسية والأمنية والاقتصادية المطلقة لإسرائيل على كامل منطقة الشرق الأوسط، لتصبح بذلك قوةً مهيمنةً عالمياً إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا والصين. ومن هنا، قد يكون من الأدقّ تسمية عمليتها ضد إيران بـ«الإله الصاعد». فهذا «الإله المهيمن» يسعى لتحقيق رؤيته عبر جرّ المنطقة إلى معركة «هرمجدون» الحقيقية؛ المعركة الفاصلة بين الخير والشر في آخر الزمان.
ولكن، هل سيحقّق ذلك الضمانة الأمنية طويلة الأمد لإسرائيل؟
مكرُ العجم
في الجانب الآخر، تدّعي دولة «ولاية الفقيه» الإيرانية أنّها تمثّل خط «المقاومة الإسلامية» في مواجهة الهيمنة الصهيونية. وتطلق بين الحين والآخر شعارات مثل «الموت لأمريكا» و«الموت لإسرائيل». كما قامت، من خلال عقيدة «تصدير الثورة»، بتدريب ميليشياتٍ عدّة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
لكن، ورغم هذه الشعارات والتصريحات النارية، تبدو إيران في الواقع وكأنها تسعى فقط إلى تعزيز حصّتها في لعبة المصالح الإقليمية. فالجمهورية الإسلامية لديها أهدافٌ اقتصادية واضحة، مثل توسيع صادراتها من الغاز والنفط، وتسعى في الوقت ذاته إلى نيل المزيد من الاعتراف من النظام الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل.
هذه المقاربة يمكن تسميتها بـ«مكر العجم»، وهي التي اعتمدتها إيران على مدى أكثر من أربعة عقود من حكم النظام الإسلامي. فمن جهة، ترفع راية العداء لأمريكا وإسرائيل والنظام العالمي، ومن جهة أخرى، تسعى إلى التقرب منهم وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية تحت غطاء شعاراتها الثورية.
وكما يحدث في المجتمعات اليهودية، تدفع المجتمعات الإيرانية ثمناً باهظاً على مذبح مصالح النخبة الأصولية الحاكمة. ويبدو أن الجمهورية الإسلامية، من خلال هذا التناقض المزمن، قد حفرت قبرها بيديها. فالقرار قد حُسم، وسواء بالقوة الناعمة أو الخشنة، فإن خضوعها بات مسألة وقت.
ولادة جديدة
ختاماً، يبدو أن الشرق الأوسط يقف على أعتاب ولادة جديدة، ولادة تحمل في طياتها مسارات متباينة: فإمّا أن تستمر الحروب، ويتكرّس واقع التفكك إلى دولٍ هشة وكياناتٍ تقوم على أسسٍ عرقية ودينية ومذهبية، مع اقتصادٍ مفتوحٍ للنهب الداخلي والخارجي؛ أو أن تنجح المنطقة في إنجاز ولادتها الخاصة على أسسٍ جديدة.
من المهم التذكير بأنّ الحضارة الأوروبية لم تتمكن من تحقيق انتصارها الساحق على الشرق إلا بعد المرور بتحولات كبرى، شملت الإصلاح الديني، والتطور الفلسفي والعلمي، عبر النهضة والإصلاح والتنوير.
وعليه، فإنّ الشرق بحاجة إلى مراجعة شاملة لتاريخه الحضاري من خلال منظور نقدي، وإنجاز إصلاحات عميقة تطال البنى الذهنية كافة، بدءاً من الخطاب الديني وقضايا الهوية والمواطنة، وصولاً إلى بنية الدولة والاقتصاد والمجتمع. ولا يكون ذلك إلا من خلال صياغة ديمقراطية خاصة بالمنطقة، وتحديث الدول على أسس دستورية، تقوم على المواطنة الكونية، وبناء مجتمعاتٍ منفتحة، تعددية، تتفاعل فيها الهويات ولا تتصارع، بل تتجاوز نفسها نحو تركيبات أرقى دون إنكار جذورها.
في هذا السياق، وبعيداً عن الرؤية التوراتية التي يتذرع بها اليمين المتطرف في إسرائيل، فإن الدولة الإسرائيلية تحتاج إلى ما يشبه المعجزة، ضمن الشروط القائمة، كي تلعب دوراً ريادياً حقيقياً في ترسيخ السلام والديمقراطية في المنطقة. فالطريق إلى شرق أوسط مستقر لا يمر عبر «مشروع الشرق الأوسط الجديد» الذي تروّج له تل أبيب وسط مشاهد المذابح والدمار، بل يمكن أن ينبثق من تصور بديل يتمثل في بناء «اتحاد ديمقراطي شرق أوسطي» على غرار الاتحاد الأوروبي، يُركز على التعاون في مجالات حيوية كالمياه والطاقة والتنمية المستدامة.
لكن من غير الممكن الحديث عن دور بنّاء لإسرائيل دون أن تبدأ بمواجهة تناقضاتها البنيوية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي تبقى العقدة الأكثر تعقيداً في تاريخها السياسي. فالمصالحة الحقيقية تبدأ من ترسيخ مفهوم المواطنة الدستورية، والاعتراف الكامل بالهوية الفلسطينية، والسير نحو صيغة كونفدرالية تجمع الفلسطينيين والإسرائيليين في كيان تعاوني، يمتد ليشمل دول الجوار.
وإذا ما اختارت إسرائيل هذا المسار، ولو على نحو مثالي، فإن الطريق نفسه سيُشكّل الضمانة الحقيقية لأمنها ووجودها وحرية مجتمعها، كما سيفتح أفقاً حقيقياً لنهضة شاملة في الشرق الأوسط. هذه المنطقة بحاجة إلى إحياء الميراث الإبراهيمي كقوة سلام في وجه عقليات الطغيان والفوضى، لا إلى تحوير هذا الميراث إلى أدوات ثأر وانتقام بلا حدود.
نورهات حفتارو: كاتب يهتم بالقضايا السياسية والعلاقات الدولية في الشرق الأوسط وسوريا.