يواجه خيار اللامركزية السياسية، الذي تتبناه الإدارة الذاتية والوفد الكردي لضمان التعددية والمشاركة، عقبة تمسّك دمشق بالنظام المركزي، ما قد يعرقل مسار العملية السياسية. فاللامركزية تعني تقاسم الصلاحيات مع الدولة، وهو ما ترفضه دمشق. وفي هذا السياق، يطرح مشروع «الديمقراطية المحلية» صيغة توازن بين حقوق الهويات المحلية وقدرة المجتمعات على إدارة شؤونها ووحدة الدولة، مستنداً إلى رؤية لا تنشد الانفصال ولا الذوبان في المركز، بل شراكة دستورية بين الدولة والمجتمع، على غرار ما طرحه أوجالان في حواراته مع أنقرة.
فرهاد حمي
بعد أن استعرضنا في المادة السابقة الخلفيات الدولية والإقليمية والمحلية التي تشكّل الإطار العام لاتفاق العاشر من آذار، ننتقل في هذه المقالة إلى تحليل مضمون الاتفاق نفسه، مستعرضين أبرز بنوده، ومناقشة مدى قابليتها للتكيّف مع تعقيدات المرحلة الراهنة في سوريا، في ظل التحولات المتسارعة على المستويين الداخلي والخارجي.
لا شك، أنّ الاتفاقية مثّلت رداً مباشراً على التساؤلات حول «الاندماج» وتوحيد البلاد، مؤكدة أنّ الوصول إلى حل سياسي مستدام، يتطلب خطوات إجرائية واضحة ومتدرجة. حيث بدأت هذه العملية بتوقيع اتفاق مبدئي بين الأطراف المعنية، لتحدد المبادئ الأساسية المشتركة بوصفها أرضية أولى لأي تسوية.
بناءً على هذا الاتفاق المبدئي، تم التفاهم على تشكيل لجان فنية وقانونية وسياسية من خلال وفدين يمثلان الطرفين، بحيث تتولى مهمة ترجمة المبادئ المتفق عليها إلى نصوص قانونية قابلة للتنفيذ. وتشمل هذه الخطوة إعداد مسودات قانونية ودستورية تراعي مصالح جميع الأطراف وتوازناتها، في محاولة لتأمين صيغة توافقية ومستقرة.
ومن ثم، ستُخضع هذه المسودات لاحقاً لمراجعة دقيقة من قبل جهات مختصة، قبل عرضها على هيئة شرعية، كبرلمان وطني أو مجلس انتقالي، لاعتمادها رسمياً. وفي المرحلة التالية، تتكفّل الجهات التنفيذية المختصة بتنفيذ هذه البنود على أرض الواقع، ضمن آلية رقابة واضحة تضمن تطبيق الاتفاق بصورة فعلية، بعيداً عن الطابع الرمزي أو الشكلي.
من ناحية الصياغة الإجرائية، ستتوزع الاتفاقية على ست خطوات إجرائية تشكّل الإطار التنفيذي لها كما ورد أعلاه، وقد تم تفصيلها ضمن ثمانية بنود رئيسية. وتتطلب معالجة كل بند من هذه البنود المرور بتلك الخطوات الست ضمن السياق التفاوضي، ما يعكس التحدي الحقيقي الذي يواجه عملية التفاوض بشأن مضمون الاتفاقية وطبيعتها.
انطلاقاً من ذلك، سنركز في هذه المقالة على تحليل بعض الجوانب الأساسية الواردة في البنود المطروحة، مع تخصيص اهتمام خاص للبندين الأول والثاني نظراً لأهميتهما المحورية في هيكل الاتفاق. أما البنود الستة المتبقية، فسيُتناول بحثها بشكل مفصل في المادة القادمة.
المواطنة الدستورية
ينص البند الأول من الاتفاقية على ضمان مشاركة جميع المواطنين السوريين في مؤسسات الدولة والعملية السياسية دون أي تمييز قائم على العرق أو الدين، بما يشكّل مرتكزاً أساسياً لبناء دولة مواطنة دستورية وشاملة. ولأجل تفعيل هذا المبدأ ضمن السياق التفاوضي الراهن، ينبغي أن يُعاد صياغته بطريقة إجرائية واضحة، بحيث يُفهم على النحو التالي:
- ضمان المشاركة الشاملة: يجب إشراك جميع المواطنين السوريين في مؤسسات الدولة والعملية السياسية دون تمييز عرقي أو ديني.
- اعتماد مبدأ الكفاءة والمساواة: تعتمد المشاركة والانتماء على الكفاءة والاستحقاق، وليس الولاء لهوية معينة.
- تأكيد الشراكة المتساوية: يُضمن أن يكون جميع الأطراف، أفراداً وجماعات، شركاء متساوين في الدولة، مع تمثيل حقوقهم ضمن مؤسساتها.
- تعريف هوية الدولة: تُبنى الدولة ككيان قانوني ودستوري مفتوح يستوعب التعددية المجتمعية ويشرعنها ضمن أطر دستورية واضحة.
تصطدم هذه الرؤية بشكل واضح مع «الدستور المؤقت» الذي قُدم بصيغة أحادية تعتمد على العروبة والإسلام السني، ولا تعكس التنوع الحقيقي للمجتمع السوري، بل تزيد من الإقصاء. ينبغي على الطرف المفاوض أن يعتمد خطاباً واقعياً ومرناً، يعزز مبدأ الشراكة الشاملة دون أن يصطدم مباشرة بثوابت الطرف الآخر، فرغم الاعتراضات التي تبديها سلطة دمشق حيال مبدأ المشاركة الشاملة، يُعدّ البند الأول من الاتفاقية حجر الأساس في بناء دولة سورية حديثة قائمة على المواطنة المتساوية، وهو ما يتماشى مع المبادئ العامة التي يطالب بها المجتمع الدولي لحل مستدام. من هذا المنطلق، يجب على الطرف المفاوض أن يعزز هذا البند من خلال عدة مرتكزات إجرائية:
- ربط البند بالمصلحة الوطنية: التأكيد على أن إشراك جميع المواطنين، دون تمييز، يعزز من وحدة الدولة واستقرارها، ويمنع الانقسام المجتمعي الذي قد يترتب عن سياسات الإقصاء.
- التدرج في الطرح: تقديم هذا البند ضمن رؤية إصلاحية مرحلية قابلة للتطبيق، تبدأ بتوسيع قاعدة المشاركة ضمن المؤسسات القائمة، تمهيداً لتحولات دستورية لاحقة.
- إبراز التوافق الدولي: الاستفادة من الضغوط والمطالب الدولية المتعلقة بـ«الحكم الشامل» لتبرير الحاجة إلى مبدأ المشاركة المتساوية.
- تفكيك الخطاب الأحادي: تقديم نقد موضوعي للدستور المؤقت من حيث نتائجه، وليس من حيث نواياه، عبر الإشارة إلى كيفيات إقصائه للشرائح المجتمعية، مما يهدد بإعادة إنتاج الاستبداد، وإن كان بصيغة دينية أو قومية.
- طرح مفهوم الدولة الجامعة: توضيح أن الاعتراف بالتعددية لا يعني تقسيم الدولة، بل إعادة تعريفها كإطار جامع يستوعب كل مكوناتها، عبر مبادئ واضحة للمواطنة والمساواة والتمثيل العادل.
- يجب أن يكون الخطاب التفاوضي مدروساً، يربط هذا البند بالقيم العالمية المتفق عليها، ويقدمه كفرصة لتفادي انهيارات مستقبلية في البنية السياسية والاجتماعية للدولة السورية. فغياب هذا البند أو تجاهله لا يُعد مجرد تنازل، بل يُهدد بإعادة تدوير الصراع بأشكال أكثر حدة وتطرفاً.
عليه، يشكل البند الأول خطوة أساسية لحل القضية الكردية التي يعالجها البند الثاني من الاتفاقية. رغم أن مطالب الكرد في سوريا تنبع من معاناة محلية وتاريخية بسبب التهميش والإنكار، فإن مشروع الإدارة الذاتية يتجاوز هذه الحدود، ويسعى ليكون شريكاً حقيقياً مع جميع المكونات السياسية في صنع القرار الوطني.
بمعنى آخر، يُعد حل القضية الكردية كحق جماعي جزءاً لا يتجزأ من مشروع المواطنة الشاملة، التي ترتكز على قيم المساواة والعدالة والحرية لجميع المواطنين. وعلى الوفود التفاوضية ألا تتهاون في هذا البند، وألا تركز فقط على الحقوق القومية الجماعية بمعزل عن دولة المواطنة، لأن هذا التوجه سيُقصي الإدارة الذاتية ويحد من دورها الجغرافي والسياسي، ويمنعها من بناء تحالفات سياسية تتجاوز الانتماءات الضيقة، وبالتالي يحرمها من المشاركة المتساوية في صنع القرار ضمن إطار دولة تقوم على المواطنة والديمقراطية المحلية.
الديمقراطية المحلية والقضية الكردية
مع ذلك، تظل القضية الكردية في سوريا من أبرز الإشكاليات التاريخية المعقدة، إذ ارتبطت لعقود طويلة بسياسات التهميش والإنكار، وتحولت خلال العقد الأخير إلى مصدر قلق أمني وسياسي متواصل لدى تركيا. وانطلاقاً من هذه الخصوصية، خصّصت الاتفاقية بنداً مستقلاً لمعالجة المسألة الكردية، بوصفها مدخلاً ضرورياً لأي تسوية سياسية شاملة.
من أجل ذلك، تم تشكيل وفد كردي عقب مؤتمر الوحدة الكردية، ليتولى التفاوض بشأن سبل حل هذه القضية ضمن إطار العملية التفاوضية الأوسع، وهو ما يُعد منطقياً ومبرَّراً، نظراً لما تتطلبه هذه القضية من معالجات دقيقة وحلول تراعي أبعادها السياسية والحقوقية والإقليمية.
تضمّن هذا البند تعبير «المجتمع الكردي الأصيل، تضمن الدولة حقه في المواطنة وكافة الحقوق الدستورية»، حيث يُستخدم مصطلح «المجتمع» هنا للدلالة على كيان اجتماعي حداثي يتجاوز الأطر القومية التقليدية المرتبطة بمفهوم «الشعب» بوصفه نواة لدولة قومية قائمة على الروابط العرقية. ينطلق هذا المفهوم من منظومة قيم عالمية كالعدالة والحرية والمساواة، ويعكس تصوراً تحررياً منسجماً مع مقاربات علم الاجتماع المعاصر والمبادئ الدستورية. وهو لا يستهدف بناء كيان قومي منفصل، بل يؤكد على حق هذا المجتمع في تنظيم شؤونه وإدارة ذاته ضمن إطار قانوني معترف به.
مع ذلك، لم يحظَ هذا الفهم بالقبول الكافي لدى بعض فئات الرأي العام الكردي والنشطاء، الذين ظلّوا يفسرون الحقوق ضمن إطار الدولة القومية ومشتقاتها من الفيدرالية واللامركزية، مع التركيز على الهوية القومية الضيقة على حساب القيم العامة والمشتركة. بالعموم، يجب التمسك بماهية البند كما هو مصاغ.
لكن الأمر لا يتوقف هنا، فالعملية التفاوضية قد تواجه إشكالية مستعصية، إذ رغم مطالبة القوى الغربية والإقليمية لدمشق باعتماد مقاربة أشمل في إدارة الحكم تشمل مشاركة جميع القوى السياسية في صنع القرار، جنباً إلى جنب مع مساهمة كل من فرنسا وأمريكا في تعزيز حقوق الكرد في البلاد، إلا أنها لم تتبنَّ بعد نموذج اللامركزية أو الفيدرالية كما هو معمول به في دول مثل العراق والإمارات. ويرجع ذلك إلى خشيتها من أن تؤدي هذه النماذج إلى تفكك الدولة وزيادة الفوضى، خصوصاً في بلد تعرض لبنية داخلية منهكة بسبب سنوات الحرب الأهلية الطويلة.
في الواقع. التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في الاتفاق على المبادئ، بل في كيفية إعادة تأطير مؤسسات الإدارة الذاتية ضمن صيغة قانونية وشرعية. وهنا يبرز السؤال الجوهري: أي نموذج من نماذج الحكم المحلي في العالم يمكن أن يُلهم حلاً عملياً قابلًا للتطبيق في السياق السوري؟
تعتمد الإجابة على هذا السؤال بشكل رئيسي على مسار المفاوضات بين الطرفين، والتي ستحدد صيغة توافقية تتناسب مع الواقع السوري، وتنسجم مع عملية السلام بين السيد عبد الله أوجالان والدولة التركية. ولكن إذا استمر وفد الإدارة الذاتية والوفد الكردي في تبني خيار اللامركزية السياسية كوسيلة أساسية لضمان التعددية والمشاركة، فقد يواجه تمسك حكومة دمشق بالنظام المركزي المتشدد، وبذلك قد يعرض سير العملية للتعطيل. لأن اللامركزية هي مشاركة تقسيم السلطة وصلاحيات الدولة، وليس تعزيز حق المجتمع في إدارة شؤونه ضمن مؤسساته الخاصة، وهو ما يشكل جوهر مشروع الإدارة الذاتية.
في مثل هذه المناخات، يمكن أن تلعب الضغوط والتسهيلات الدولية والإقليمية، خاصة من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بالإضافة إلى تركيا ومبادرة أوجالان، دوراً محورياً في دفع الطرفين نحو التوصل إلى حل وسط، يوازن بين الحفاظ على وحدة الدولة، ويضمن حقوق المناطق المحلية في الإدارة الذاتية والتمثيل السياسي العادل.
بدلاً من الاتجاه نحو نماذج فيدرالية أو لا مركزية واضحة، قد تميل بعض القوى الدولية والإقليمية إلى دعم خيار «الإدارة المحلية الموسعة»، من خلال تعزيز صلاحيات البلديات ضمن إطار المحافظة كوحدة إدارية أساسية. غير أن هذا الطرح لا يزال يدور في فلك النقاش حول شكل الدولة وهياكلها، دون أن يتطرق بجدية إلى مسألة جوهرية تتعلق بحق المجتمع في إدارة شؤونه ومؤسساته بشكل مباشر وفاعل.
وسط هذا التعقيد، يبرز مشروع «الديمقراطية المحلية» كمقترح توافقي مرجّح أن يقدّمه الوفد الكردي، في محاولة لصياغة معادلة متوازنة تجمع بين ضمان حقوق الهويات المحلية، أفراداً وجماعات، والحفاظ على وحدة الدولة السورية. وتعكس هذه الرؤية مقاربة قريبة من التصوّرات التي طرحها أوجالان في حواراته مع الدولة التركية، حيث يستند النموذج إلى صيغة لا تسعى إلى الانفصال ولا إلى الاندماج الكامل في المركز، بل إلى شراكة دستورية تضمن احترام الخصوصيات.
يمتاز هذا النموذج بقدرته على استيعاب المطالب الكردية في ما يخصّ إدارة مؤسساتهم الذاتية، ضمن إطار قانوني ودستوري ملزم يعترف بشرعية هذه المؤسسات ويكفل مشاركتها في الحياة السياسية الوطنية، على أساس المواطنة المتساوية، من خلال التمثيل السياسي والانتخابات على مختلف مستويات الحكم، من المركز إلى الأطراف.
من منطلق أن البلاد تمرّ بمرحلة انتقالية حرجة، يصبح من الضروري العمل على إدارة منسقة بين مؤسسات الدولة المركزية في دمشق ومؤسسات الإدارة الذاتية، بما يضمن الاستقرار ويضع أسساً واقعية لبناء دولة ديمقراطية تشاركية قائمة على التعددية واحترام التوازنات المحلية. ويمكن الاستئناس في هذا السياق بعدد من النماذج العالمية، كالميثاق الأوروبي للإدارة الذاتية، ونظام الإداري المحلي في مدينة لندن، وتجربتي اسكتلندا وإيرلندا، وهي جميعها أمثلة تسلط الضوء على إمكانيات ترسيخ التوازن بين مركزية الدولة وحقوق المجتمعات المحلية.
بهذا المعنى، يصبح من الممكن تحقيق صيغة تتيح وجود مؤسسات الدولة في مناطق الإدارة الذاتية، وفي الوقت ذاته، تلزم الدولة بالاعتراف الدستوري والقانوني بشرعية مؤسسات الإدارة الذاتية وبدورها في تمثيل المجتمعات المحلية وإدارة شؤونها. إن الديمقراطية المحلية، كما تُطرح في هذا السياق، قد تمثّل مدخلاً عملياً لمعالجة القضية الكردية بكل أبعادها، السياسية، الاقتصادية، الثقافية، والخدمية، دون الاصطدام مع الهواجس المركزية لدى دمشق وأنقرة. ورغم أن هذه الصيغة قد لا تحمل تسمية «اللامركزية»، إلا أنها تقدم فرصة حقيقية لإعادة التوازن بين المركز والأطراف، بين الدولة والمجتمع، بما ينسجم مع الشروط الواقعية والمعطيات الراهنة.
فرهاد حمي: كاتب وصحفي مهتم بشؤون الشرق الأوسط وسوريا. كتب في العديد من الصحف ومراكز الدراسات.
بين منطق «من يحرر يقرر» والرؤية التشاركية: قراءة في اتفاق الإدارة الذاتية ودمشق (1)