الهوية البصرية بين دولة الصنم والاستعراض الحكواتي

يقف خلف هذا المشروع الحكواتي–الاستعراضي عقل استشراقي تبسيطي يُصوّر المجتمع السوري ككتلة متجانسة تُختزل في «الأغلبية السنية العربية»، ويُعيد رسم سوريا كامتداد لدمشق بطابعها الأموي العروبي. تقوم هذه الرؤية، كما تشير بعض الدراسات، على مفهوم «الإسلام السلطاني العروبي»، حيث يُعاد تركيب التاريخ بشكل انتقائي وسطحي يُفرغه من تعقيده وتعدديته.

نوروز داوود

في لحظة كثيفة بالرموز، كانت أجهزة الإسقاط المنصوبة قرب نصب «الجندي المجهول» تبثّ مشاهد الهوية البصرية السورية الجديدة، لترتسم على كتف جبل قاسيون في عرض ضوئي مُتقن. غير أن خلف هذه الواجهة المتلألئة، كانت مدينة دمشق تغرق في عتمة شاملة، محرومة من أبسط مقومات الحياة: الكهرباء. هذا التناقض الفجّ بين وهج العرض الرسمي وعتمة الواقع المعاش لا يكشف مجرد خلل إداري، بل يعكس مأزقاً أعمق يتعلّق بجوهر بنية الدولة القومية.

إذ لا تزال هذه الدولة أسيرة إرث رمزي بصري مقدّس، يقدّم الاستعراض على المعنى، والتمثيل على التمثّل، في قطيعة واضحة مع المخيال الجمعي للأمة. وهنا، تحديداً، يتجلى مأزق الأمة السورية مع دولة «الشرع الاستعراضية» التي تستعيض عن الفعل السياسي الحقيقي بعروض ضوئية فوق الركام.

بصورة صارخة لا تخلو من التكلف، يسعى الشرع إلى ما هو أبعد من مجرد إنتاج هوية بصرية تتشح بالأخضر وتحلّق في فضاء «العقاب»، بل يعمل على إعادة فرض الدولة القومية بثوبها الأسطوري، الديني، على الوعي الجمعي السوري. الأمر لا يتوقف عند حدود الألوان والرموز، بل يتجلى في خطاب الافتتاح نفسه، حين افتتح كلماته بعبارة: «ولدت حكاية»، وكأن الهدف هو خلق «حكاية» مُختلَقة، تزرع وعياً جمعياً جديداً يُعيد تشكيل الأمة السنيّة الإسلامية وفق تصوره.

نحن إذن أمام محاولة ساذجة لإعادة بناء سردية أسطورية عبر عروض بصرية وصور وطقوس رمزية، في استنساخ متأخر لزمن الدعاية المقدّسة. وكأن الشرع، بتوجيه من مستشاريه الخفيين، قد التقط تلك النصيحة الشهيرة التي تُنسب لغوبلز: «الصورة أصدق من الكلمة»، فراح يراهن على قوة العرض لا على شرعية المعنى.

بعيداً عن الكتلة الشعبية التي تستند في مواقفها إلى الموروث الديني المقدّس، والتي غالباً ما تُشكّل قاعدة الطاعة للأنظمة الشمولية، تلقّى معظم السوريين هذا الحدث، كما غيره من الفعاليات أحادية الجانب الصادرة عن سلطة الشرع، بنوع من اللامبالاة وعدم الجدية. ففي بلد يعاني من أزمة هوية عميقة، وفقدان للسيادة، وانهيار في المنظومة الاقتصادية، وتشظٍّ اجتماعي واسع، بالإضافة إلى استمرار الانتهاكات بحق الإنسان والمكان، جاء الشرع ليقدم مشروعاً جديداً لإعادة صياغة الرموز والمقدسات، مستنداً إلى منطق الفرض لا التفاهم.

هذه المرة كما في كل مرة، تم المزج بين الرموز الدينية والقومية بشكل انتقائي، ودمجها في عرض يستند إلى فكرة القوة والسيطرة، من خلال توظيف «العقاب» كرمز مركزي، واختزال هوية دمشق وتاريخها في سردية واحدة ترتكز على الحقبة الأموية، متجاهلاً تعدد طبقات التاريخ والسرديات التي شكّلت هوية العاصمة السورية عبر القرون.

في الجوهر، يقف خلف هذا المشروع الحكواتي ـ الاستعراضي عقل استشراقي تبسيطي، يتعامل مع المجتمع السوري وكأنه كتلة متجانسة تُختزل في «الأغلبية السنية العربية»، ويُعيد رسم سوريا باعتبارها مجرد امتداد لدمشق بطابعها الأموي والعروبي. إنها، كما تشير بعض الدراسات التاريخية، رؤية تقوم على مفهوم «الإسلام السلطاني العروبي»، حيث يُعاد تركيب التاريخ بطريقة انتقائية وسطحية، تُفرغه من تعقيده وتعدديته.

في هذا التصوّر، يُنظر إلى التنوع السوري لا باعتباره غنىً تأسيسياً للهوية الوطنية، بل كعنصر هامشي، أقرب إلى الزخرفة التي تُجمّل واجهة الدولة العروبية الإسلامية وتُعزز هيبتها الذكورية، المتجسدة في رمز «العقاب» وأجنحتها الأمنية الممتدة من قلب العاصمة إلى 14 محافظة، بوصفها مركز السيطرة والتوسع المركزي.

من خلال هذا التبسيط، يبدو أن الشرع، بشكل لا واعٍ، يعيد إنتاج نموذجين تاريخيين خطيرين. أولاً، يُكرّر سردية استشراقية تعود جذورها إلى لحظة هندسة اتفاقية سايكس ـ بيكو، حين كانت خرائط المنطقة تُرسم ورموزها تُختزل بأقلام باهتة خلف مكاتب استعمارية في لندن وباريس، بعيداً عن تعقيدات الواقع ومكوناته.

ثانياً، يعيد تفعيل فكرة «اختراع الأمة» كما تجسدت في خطاب البعث والأنظمة الشمولية، لكن بصيغة جديدة: هذه المرة تحت عباءة أسطورة دينية ـ سنية، ممتزجة بترسبات الدولة القومية وقسوتها الرمزية، ما يكرّس مشروعاً إقصائياً يحاول فرض هوية واحدة على حساب تعدد المجتمع السوري وتاريخه المركّب.

الأمر الأبرز في سردية أحمد الشرع هو الغياب التام للمرأة الوطنية من المشهد الرمزي العام؛ فهي غائبة عن العلم والشعار والتماثيل، كما لا تظهر على الطوابع أو في الأعياد الوطنية. حضورها الفعلي يقتصر على الجانب الزخرفي والتجميل البصري، كما يتجلى في ظهور زوجته المحجبة أو شخصيات مثل هند قبوات، ضمن طقوس سلطوية تسيطر عليها رموز الذكورة السياسية والعسكرية.

هذا الحضور الذكوري الكاسح لم يكن وليد الصدفة، بل يتوازى مع انتهاكات يومية موثقة بحق النساء، تتراوح بين الخطف والقتل والاغتصاب، خصوصاً في مناطق الساحل السوري وغيرها. في هذا الإطار، يتحول تضخيم صورة النسر التي يتبناها الشرع إلى رمز يعكس دوره كـ«الأب الحامي» و«الذكر القاتل»، حيث تُفرض قيم الانضباط والعنف كآليات مركزية للهيمنة والسيطرة على المجتمع.

وإذا كانت الأدبيات القومية غالباً ما تشبّه «أرض الوطن» بالأم، فإن تغييب المرأة كلياً عن عملية تأسيس الهوية يعكس أقصى درجات العدوانية الذكورية، والتي وصلت إلى قمة ذروتها الرمزية منذ تأسيس سوريا الحديثة.

عموماً، لا يمكن لصورة حمزة الخطيب أن تُبرّر أو تبرئ عملية القرصنة التي تُمارَس باسم المجتمع السوري. فالدولة القومية، سواء في تراثها العلماني الأسدي أو الإسلاموي الحالي، ورغم ما تفرضه من عوالم رمزية وسرديات أسطورية على الأمة السورية المتنوعة، تواجه أزمة عميقة أثبتت أن هذه الأمة قد تمردت أصلاً على رموز الدولة الأحادية وجبروت مؤسساتها العنيفة.

فالواقع يؤكد أن الأمة السورية ليست قابلة للخضوع للنزعة الدولتية وجبروتها الذكوري، إذ تتمتع بصلابة تنبع من تنوعها الثقافي والهوياتي التاريخي. لهذا، تظل عصية على فرضية الخضوع لدولة الصنم الرمزي الانتقائي، وتحتفظ بإمكاناتها المستمرة في المقاومة والتجديد.

 

نوروز داوود: كاتبة وباحثة في شؤون المرأة والمجتمعات ذاتية الإدارة غير الدولتية. كتبت في عدة مراكز أبحاث.