كلما تقدمنا أكثر في عملية السلام التي يقودها السيد أوجلان مع الدولة التركية، كان أثرها أكثر إيجابية في سوريا، والعكس صحيح. هذه العملية تمثل مصدراً حقيقياً للأمل لجميع الشعوب.
قدمه الزميل فرهاد حمي
بعد سقوط نظام الأسد، استولت القوى الإسلاموية بقيادة أحمد الشرع على السلطة في دمشق، وأسست حكومة أمر واقع. وفي خضم الفوضى التي تلت ذلك، وجدت النساء والقوى الديمقراطية والمجتمع المدني والأقليات الدينية والإثنية أنفسهم في حالة من الذهول والهشاشة.
بموازة ذلك، استغلت تركيا حالة عدم الاستقرار هذه، وذلك بالتنسيق مع الميليشيات الموالية لها، والتي تُسمى بـ«الجيش الوطني السوري»، وبغطاء من الضربات الجوية، شنت هجوماً عسكرياً خاطفاً على مناطق كانت خاضعة سابقاً للإدارة الذاتية، مثل الشهباء ومنبج، واحتلتها وسط انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
لم تتوقف هذه القوات المدججة بكل صنوف الأسلحة عند هذا الحد، بل صعّدت من خطاب الكراهية والإبادة إلى ذروته، مستهدفة سد تشرين وكوباني، تلك المدينة التي أصبحت رمزاً لا يُقهر لمقاومة روجآفا.
في تلك اللحظات الحرجة، خيّم شبح التدمير الشامل على منطقتنا، وكأنّ سيناريو «غزة ثانية» يقترب بخطى ثابتة. في هذه اللحظة بالذات، برز نداء السيد عبد الله أوجلان من أجل السلام وبناء مجتمع ديمقراطي، كخطوة جريئة وفي توقيت مثالي، حاملاً معه بارقة أمل.
في وجه موجات الكراهية والإنكار، وفي زمنٍ بات فيه خطاب الإبادة الجماعية يُطَبَّع كأمرٍ معتاد، ثبتَ السيد عبد الله أوجلان على موقفه الرافض للعنف، متمسكاً بالحوار، ومُصراً على السلام. لقد اخترق صوته الجدران المنيعة للحرب، وفتح أفقاً تاريخياً استثنائياً، حيث تحوّل التصعيد إلى فرصة سياسية، والخوف إلى شعلة أمل متجددة.
لم تكن مبادرته لفتح قنوات الحوار بين المجتمع الكردي والدولة التركية مجرد موقف رمزي، بل كانت فعلاً مؤثراً ذا نتائج فورية في شمال وشرق سوريا؛ إذ أوقفت زخم العدوان التركي على مناطق الإدارة الذاتية، ومهّدت الطريق أمام مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، وأحمد الشرع، الحاكم بأمر الواقع في دمشق، لتوقيع اتفاق العاشر من مارس التاريخي.
لأوّل مرة، تعترف وثيقة دستورية في سوريا بحقوق المجتمع الكردي بشكلٍ صريح. وتبرز أهمية مصطلح «الاندماج»، الذي ورد في مستهلّ الاتفاق، لكونه يشكّل تحوّلاً جوهرياً يتجاوز سياسات الإنكار والصهر القسري. فالاندماج، بهذا المعنى، يقف على النقيض من الإنكار والصهر، كما أنّ الاتفاق يفتح الباب أمام ما يمكن تسميته بـ«الاندماج الديمقراطي»: أي البقاء ضمن الإطار السيادي للدولة، مع ضمان الحقوق الأساسية للمجتمع.
الدور الذي يؤديه السيد أوجلان في قيادة هذا المسار يُعدّ محورياً، ومن الضروري دعمه بقناعة تامة، باعتباره طريقاً نحو الاعتراف المتبادل، والتعايش، وتأمين الحقوق الكردية، ليس فقط داخل تركيا، بل في سوريا أيضاً.
كما هو معلوم، فإن الصراع السوري تحوّل منذ سنوات إلى حرب بالوكالة، ما أدى في نهاية المطاف إلى تفكك الدولة، وسحق الآمال بإحداث انتقال ديمقراطي حقيقي. واليوم، ومع هيمنة هيئة تحرير الشام (HTS) على دمشق، لم تَعُد هناك فعلياً مؤسسات دولة قائمة، ولا أطر قانونية تحمي المجتمع. نحن السوريين أمام لحظة مفصلية تتطلب تركيزاً حقيقياً على إعادة بناء مؤسسات الدولة، وضمان حقوق جميع مكونات المجتمع.
في هذه المرحلة، تبرز ثلاث رؤى متصارعة حول مستقبل سوريا:
- دولة مركزية ذات طابع قومي عربي-سُنّي، مدعومة من تركيا والمملكة العربية السعودية. تسعى هذه الرؤية إلى تحقيق «الاستقرار» عبر القمع والقوة، مع إقصاء التنوّع الديني والإثني من المشهدَين السياسي والاجتماعي.
- سوريا مقسّمة على أسس عرقية وطائفية بين (الدروز، العلويين، الكرد، المسيحيين، السنّة، إلخ)، وهي رؤية تحظى بدعم إسرائيلي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، تحت ذريعة حماية «الأمن القومي». تمثّل هذه المقاربة استمراراً لسياسة «فرّق تسد»، وتؤجّج الصراعات في عموم المنطقة.
- سلام ديمقراطي قائم على الاعتراف المتبادل والحوار السياسي، وهي الرؤية التي طرحها السيد أوجلان، وشكّلت الأساس للمفاوضات التي جرت بينه وبين الدولة التركية.
أما نحن، وبحيادية تامة، بعيداً عن أي انحياز عاطفي، نؤمن فقط بالرؤية الثالثة، باعتبارها الفرصة الحقيقية لتحقيق استقرار دائم، عادل، وديمقراطي في سوريا والمنطقة.
إذاً، أين نقف نحن، في شمال وشرق سوريا، وسط كل هذا المشهد؟
الإجابة واضحة جداً: إن طريق السلام والمجتمع الديمقراطي هو السبيل الوحيد لكسر دوّامة العنف، ذلك العنف الذي يتجاهل كل المعايير الإنسانية والأخلاقية والقانونية، كما نراه في المجازر بحق العلويين في سوريا، والمأساة الجارية في غزة، والحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران.
هذه الرؤية لا تقتصر على كونها نداءً للسلام، بل تشكّل خارطة طريق جديدة لتحرير المجتمعات من هيمنة الدولة القومية المركزية، ومن قبضة التحالف العسكري الصناعي، ومن سياسات النيوليبرالية المُفقرة. إنها تقدّم أملًا حقيقياً، يستند إلى العقل، من أجل شرق أوسط ديمقراطي قائم على التفاعل، والترابط، والتضامن بين شعوبه.
على الرغم من بعض التقدم السياسي والأمني الذي تحقق مؤخراً، لا تزال الفجوة عميقة حول ماهية السلام الحقيقي، سواء على الصعيد الإقليمي أو داخل سوريا ذاتها. إذ تختزل العديد من القوى الإقليمية والدولية، التي تتحرك وفق أجندات قومية ومصالح اقتصادية، مفهوم السلام في هدف أمني ضيق يقتصر على استعادة النظام وفرض الاستقرار بأي ثمن. وهذا، في جوهره، يعني أن «السلام ينهي كل مقاربة حقيقية للسلام».
وتتجلى هذه المقاربة بوضوح في الدعم الدبلوماسي الذي تقدمه هذه الأطراف لحكومة أحمد الشرع، التي تُكرّس نظاماً استبدادياً تحت راية الأصولية الإسلامية، تنكر حقوق المرأة وتقمع الحريات الأساسية.
بدورها، ينبغي على الإدارة الذاتية أن تقف بحزم خلف رؤية السيد أوجلان للسلام، تلك الرؤية التي تسعى إلى تحقيق توازن بين الدولة والمجتمع، وتكفل الحقوق الكونية، وتمنح الناس القدرة على المشاركة من خلال ديمقراطية دستورية ومحلية. إنها رؤية تحوّلية تمثل معادلة رابحة للجميع، وتحمي مصالح كل الأطراف المعنية.
لكن، ما الخطوة التالية؟ وكيف يمكن التوفيق بين هذه المسارات المتضاربة لصناعة السلام؟
يشكل اتفاق 10 مارس بين الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وحكومة دمشق، بدعم من قوى دولية ومحلية وتركيا، قاعدة صلبة لسلام عادل ومشرف. لكن التحدي الحقيقي يكمن اليوم في كيفية تحويل هذا الاتفاق إلى واقع ملموس. وبالتالي، يتحمل الغرب، وخاصة المملكة المتحدة، ومن ثم تركيا مسؤولية كبيرة. يجب عليهم الضغط على حكومة الشرع لوقف سياساتها الاستبدادية والإقصائية وتسريع وتيرة الإصلاحات المؤسسية والسياسية، إذ إن تقاعسهم عن ذلك سيعرض أي اتفاق للانهيار. إذ إن أي انتكاسة في هذا المسار تعني العودة إلى المعادلة القاسية: لا رابح في الحروب، ولا مستقبل يُبنى على الخوف والقمع.
عموماً، ساهم اتفاق مارس في تجنّب صدام عسكري محتمل مع حكومة دمشق، وخفّف من حدة التوتر مع الفصائل المدعومة من تركيا في المناطق المحتلة. لكن الأهم من ذلك، أنه فتح الباب أمام حوار سياسي جاد مع دمشق. وعقب مؤتمر وحدة الصف الكردي في قامشلو بتاريخ 26 أبريل\نيسان، قامت الإدارة الذاتية بتشكيل لجان تفاوض بدأت بالفعل محادثات مع الحكومة السورية.
ومع ذلك، فإن تفعيل هذا الاتفاق يواجه تحديات كبيرة، بسبب الخلافات العميقة والقضايا الحساسة التي لا تزال عالقة. هنا، أرغب في التطرق بإيجاز إلى بعض التحديات التي تواجه تنفيذ هذا الاتفاق.
في الواقع، وعلى الرغم من محاولات حكومة دمشق إجراء تغييرات سطحية على طريقة عمل الدولة، إلا أنها لا تزال متمسكة بنظام مركزي واستبدادي. يستند هذا النظام إلى الإسلام السياسي، ويواصل اتخاذ القرارات القانونية والدستورية بمفرده، مع اختيار بعض التقنيين بشكل انتقائي. هذا النهج لا يفيد أحداً، ويقف عائقاً أمام السلام والوحدة الديمقراطية.
وفي الوقت نفسه، ينبغي على الإدارة الذاتية أن تقف عند تجربتها الخاصة، من خلال تحديد نقاط القصور، ومواكبة تحديات هذه المرحلة المهمّة. وهذا يعني أن تكون أكثر انفتاحاً سياسياً على مستوى سوريا ككل، وأن تتجاوز الحدود الجغرافية والقومية الضيقة.
في النهاية، كلما تقدمنا أكثر في عملية السلام التي يقودها السيد أوجلان مع الدولة التركية، كان أثرها أكثر إيجابية في سوريا، والعكس صحيح. هذه العملية تمثل مصدراً حقيقياً للأمل لجميع الشعوب، وحتى خارج الحدود الوطنية، وتشكل فرصة تاريخية لتحويل معاناة الماضي إلى مستقبل أفضل يقوم على السلام، والاعتراف المتبادل، والعدالة، والتضامن.