الديمقراطية المحلية كجسر بين قسد والمركز (3)

لا «اندماج قسري» في المركز، ولا «استقلال كلي»، ممكن… وحدها الشراكة و«الاندماج الديمقراطي» بين دمشق والإدارة الذاتية، عبر معادلة «الديمقراطية المحلية + الدولة الدستورية»، تفتح الطريق أمام حل واقعي وقابل للتطبيق.

فرهاد حمي

في المادة السابقة، استعرضنا البندين الأول والثاني من اتفاقية العاشر من آذار، نظراً لما تمثّله دولة المواطنة والقضية الكردية من أهمية محورية في المشهد السوري. وفي هذه المادة، سنواصل تحليل بقية البنود، مستعرضين إمكانيات تحويلها إلى حلول عقلانية وواقعية، في ظل تعقيدات المشهد السوري الراهن.

وانطلاقاً من ذلك، يُعدّ البند الرابع – الذي ينص على «دمج المؤسسات المدنية والعسكرية ضمن إدارة الدولة السورية، بما في ذلك المعابر الحدودية وحقول النفط والغاز والمطارات» – من أبرز القضايا الجوهرية في الاتفاقية. وبرأينا، فإن انزلاق الاتفاق إلى حلول مجزأة وفردية قد يؤدي إلى تقويض الإطار العام لها. لذا، فإن تحقيق التوازن يتطلب نموذجاً نظرياً متكاملاً. ونحن نرى أن صيغة «الديمقراطية المحلية + الدولة الدستورية» تُمثل خياراً واقعياً ومناسباً يراعي خصوصية السياق السوري.

يقوم هذا النموذج على إدارة المؤسسات العامة من خلال مجالس محلية منتخبة، تُمنح صلاحيات موسعة لا تقتصر فقط على تقديم الخدمات، بل تمتد إلى المهام السياسية والتنفيذية، ما يكرّس دوراً فعّالاً للمجتمع المحلي في اتخاذ القرار. ويحظى هذا النموذج بدعم ملحوظ من عدد من القوى الدولية والإقليمية، لكونه يعزز مفهوم الحوكمة المحلية ضمن إطار الدولة الموحدة، ويكرّس مبدأ المواطنة الفاعلة، إذ يمنح المجتمعات المحلية حرية صياغة السياسات بما يتلاءم مع احتياجاتها وخصوصياتها.

غير أن تطبيق هذا النموذج يتطلب من الدولة السورية اعترافاً واضحاً ومُلزماً بهياكل الإدارة الذاتية القائمة، باعتبارها جزءاً من البنية المؤسسية للمجتمع، لا ككيانات خارجة عن الدولة، بل كأشكال تنظيمية تعبّر عن حق المجتمعات في إدارة شؤونها الحيوية. فالديمقراطية المحلية لا تعني تحميل الدولة وحدها مسؤولية تسيير المجتمع، بل تفترض أن يكون المجتمع قادراً على تنظيم نفسه قانونياً، سياسياً، واقتصادياً، كما تفعل الشركات الخاصة، أو منظمات المجتمع المدني، لكن على نطاق أوسع وأكثر رسوخاً.

والفارق الجوهري هنا أن مؤسسات الإدارة الذاتية ليست مجرد فكرة مستقبلية أو افتراض نظري، بل هي موجودة فعلياً وقد نظّمت نفسها سلفاً على أرض الواقع، ما يُحتّم على الدولة، في حال تبنّي نموذج الديمقراطية المحلية، أن تعترف بهذه المؤسسات وتدمجها ضمن الإطار الدستوري والقانوني للدولة، باعتبارها شريكاً أساسياً في إدارة البلاد لا مجرد تابع إداري.

وفي هذا السياق، يمكن إعادة النظر في قوانين الإدارة المحلية، بما يتيح إمكانية إدراج كل من عفرين وكوباني والقامشلي كمحافظات مستقلة ضمن الهيكل الإداري للدولة السورية، الذي يتألف حالياً من 14 محافظة. ويأتي ذلك في إطار رؤية أشمل تهدف إلى توسيع صلاحيات المحافظات والمجالس البلدية. ومن هذا المنطلق، فإن تعزيز هذه الصلاحيات ضمن نموذج ديمقراطي محلي من شأنه أن يعزز الترابط بين المركز والأطراف، ويضع أسساً لحكم أكثر توازناً وشمولية على امتداد الجغرافيا السورية. ويمكن الاستفادة من الميثاق الأوروبي للحكم الذاتي المحلي كنموذج قابل للتطبيق لترجمة هذه التوجهات إلى سياسات عملية.

إدارياً، يُعتبر توزيع الصلاحيات إلى المناطق المحلية ضرورة عاجلة لتعزيز الحوكمة وتمكين المجتمعات من إدارة شؤونها، ويشمل ذلك انتخاب المحافظين مباشرةً، وتوسيع صلاحيات مجالس المدن  والبلديات، وتفعيل دورها في التخطيط والتنمية، أما من الناحية الاقتصادية والثقافية، فتفويض السلطات المحلية بصياغة السياسات الاقتصادية، وإدارة الضرائب والمشاريع الإنتاجية، ومكافحة البطالة، يُعدّ أمراً حيوياً خاصة للمناطق المهمشة. كما يجب منح هذه المناطق صلاحيات موسعة في إدارة التعليم مع الاعتراف بالتعدد اللغوي والثقافي، وضمان تدريس اللغات الكردية والسريانية والعربية ضمن مناهج تراعي الخصوصية المحلية والانتماء الوطني، ليصبح دور المناطق المحلية فاعلاً ضمن إطار وطني يعزز المواطنة والوحدة من خلال التنوع.

كل هذه الأمور لن تتحقق من دون إعادة النظر في «النهج السياسي والعملي» لكل من دمشق والإدارة الذاتية على حد سواء. فلا الذوبان والصهر في المركز تحت مسمى «الاندماج القسري» قابل للتحقق، ولا الانفصال وبناء دولة داخل الدولة ممكنٌ عملياً. وعليه، فإن الشراكة في بناء الدولة والمجتمع والاندماج الديمقراطي، من خلال صيغة «الديمقراطية المحلية + الدولة الدستورية»، تُعدّ الحل الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق.

قسد و«المشاركة في البناء»

على الرغم من الانفتاح على الحوار والتفاوض بين الطرفين، إلا أن هناك خطوطاً حمراء يصعب تجاوزها بالنسبة لقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، وفي مقدمتها الملف الأمني، الذي يُعد حجر الأساس في أي تسوية سياسية قابلة للاستمرار.  وفي هذا الإطار، يُعتبر دمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن بنية الجيش الوطني، على شكل فيلق أو قوة خاصة تحتفظ بهويتها المؤسسية، خطوة أساسية لا يمكن تجاوزها لضمان الاستقرار الأمني والإداري، خصوصاً في مناطق شمال وشرق سوريا. ولا يقتصر هذا الطرح على كونه مطلباً محلياً، بل يلقى دعماً دولياً واضحاً، لا سيما من جانب القوى المنخرطة في التحالف الدولي ضد داعش، والتي ترى في الحفاظ على هذه القوات وتكاملها مع الجيش السوري عاملاً ضرورياً لمواصلة جهود مكافحة الإرهاب وضمان الأمن الإقليمي.

من الناحية الإجرائية، يمكن اعتماد نموذج دمج مؤسسي للقوات المحلية ضمن بنية الجيش الوطني السوري من خلال تشكيل «فيالق» أو «ألوية خاصة»، تُحافظ على تسمياتها وهويتها الرمزية، مع التأكيد على ولائها للدولة السورية. هذا النموذج يوفّر صيغة وسطية بين الحفاظ على الخصوصيات المحلية وبين دمجها ضمن الهيكلية الوطنية، بما يعزز الانسجام المؤسساتي دون الإضرار بوحدة الدولة.

وبالنظر إلى خصوصية الحالة السورية، فإن النموذج الأقرب للتطبيق هو النموذج الأمريكي، وتحديداً ما يرد في التعديل الثاني من الدستور الأميركي، والذي ينص على أن «المليشيا المنظّمة تنظيماً جيداً ضرورية لأمن الدولة الحرة، ولا يجوز انتهاك حق الشعب في الاحتفاظ بالسلاح وحمله». وبالقياس على هذا المبدأ، يمكن اعتبار تشكيلات الدفاع الذاتي قوة مشروعة في سياق حماية المجتمعات، بشرط أن تندرج ضمن بنية الدولة وتُدار ضمن إطار وطني جامع.

في هذا السياق، يمكن أن تخضع هذه الوحدات لقيادة مركزية تتمثل في هيئة الأركان العامة ووزارة الدفاع، على أن يتم ذلك بالتنسيق مع قياداتها الحالية، مثل قيادة قوات سوريا الديمقراطية. ويُراعى في تنظيم هذه الوحدات خصوصياتها الداخلية، سواء من حيث اللغة أو نظم التدريب، من خلال تبني نظام «الكود المزدوج» أي الجمع بين القواعد العامة للجيش السوري والمعايير الخاصة بالوحدات المحلية، على غرار ما هو معمول به في الجيش البلجيكي بين الوحدات الناطقة بالفرنسية وتلك الناطقة بالفلمنكية، دون المساس بالعقيدة العسكرية الوطنية الجامعة.

تُكلّف هذه الوحدات بمهام حفظ الأمن والاستقرار في مناطقها الجغرافية الأصلية، مع إمكانية إعادة نشرها وفقاً لمتطلبات المصلحة الوطنية والسيادة العامة. كما يُضمن لها تمثيل متوازن في قيادة هيئة الأركان ووزارة الدفاع، بما يعكس تنوع البنية الوطنية ويُكرّس مبدأ الشراكة. ويُنظّم وجود هذه الوحدات ضمن قانون خاص يُحدد علاقتها القانونية والإدارية بالمؤسسة العسكرية الرسمية، ويؤطر دورها ضمن سياسة الدفاع الوطني، بما يضمن التعددية داخل المؤسسة العسكرية من دون الإخلال بوحدتها أو كفاءتها العملياتية.

من الممكن أن تُكلَّف قوات سوريا الديمقراطية بالانتشار في مناطق متوترة مثل الساحل والسويداء، وحلب ودمشق في إطار خطة متكاملة لإعادة توزيع القوى الأمنية على أساس وطني. وفي المقابل، يمكن تشكيل وحدات مشتركة من الطرفين لتتولى مسؤولية إدارة المعابر وحراسة الحدود، بما يرسّخ مفهوم الشراكة الوطنية ويعزز الثقة المتبادلة. هذا النوع من الترتيبات لا يسهم فقط في توحيد الجهود الأمنية، بل قد يُساهم أيضاً في تبديد المخاوف التركية على المدى القريب، من خلال إدماج قسد في منظومة أمنية سورية موحّدة تخضع لإشراف مركزي.

قوات «الأسايش» أو الشرطة

إلى جانب ذلك، تبرز الحاجة الملحّة إلى تشكيل وإضفاء الشرعية على قوات الشرطة المحلية، سواء في مناطق شمال شرقي سوريا أو في المناطق الواقعة تحت السيطرة التركية في الشمال مستقبلاً. وهذا يتطلب مواصلة الحوار الجاد مع الحكومة المركزية، بهدف التوصّل إلى صيغة قانونية واضحة تُدرج هذه القوات ضمن هيكل الدولة الرسمي، مع وضع آليات تنسيق فعّالة بين الطرفين في إدارة المدن والبلدات في شمال وشرقي البلاد. ويُفترض أن تُمنح الشرطة المحلية الصلاحيات الكاملة في تسيير شؤون الأمن الداخلي، بما يعكس واقع المجتمعات المحلية، ويعزز الشعور بالثقة والانتماء.

في هذا الإطار، يمكن أن تُعتمد صيغة توزيع الصلاحيات على النحو المعمول به في العديد من الدول الديمقراطية، حيث تخضع الشرطة المحلية لإشراف السلطات المحلية المنتخبة « المحافظ أو عمداء المجالس المحلية»، مثل السويد ولوس أنجلوس،  وبلديات المدن مثل أسبانيا وكندا ونيويورك. في حين تدار ملفات الأمن القومي، والأمن العام، تحت إشراف مركزي مشترك، يراعي خصوصيات المناطق ويضمن وحدة القرار السيادي. وتُعد بعض المناطق ذات الطابع الكردي بحاجة إلى ترتيبات خاصة لقوات الشرطة، تحافظ على هويتها المجتمعية ضمن البنية الأمنية الوطنية. كما ينبغي معالجة ملف المناطق التي خضعت لسيطرة فصائل مسلّحة غير رسمية، مثل عفرين وسري كانيه وتل أبيض، من خلال انسحاب هذه المجموعات، وتشكيل قوى أمنية محلية شرعية ومتوازنة. وهو ما يشير إليه البند الخامس.

ولكي يكون هذا المسار مستداماً، لا بد من إعادة صياغة القوانين الناظمة لتستوعب هذه المتغيرات، بما يشمل مطالب القوى الكردية وشركائه في الإدارة الذاتية من العرب والسريان، تمهيداً لبلورتها ضمن الدستور الجديد، الذي من المفترض أن يُشكّل الإطار النهائي لنظام الحكم وشكل إدارة الدولة في المرحلة المقبلة.

المصالحة وخطاب الكراهية

عملياً، لم تقتصر الوثيقة على الجوانب السياسية والإدارية والعسكرية، بل تجاوزتها لتلامس إحدى أكثر القضايا حساسية في المشهد السوري، وهي مسألة خطاب الكراهية، وما يوازيها من ضرورة إعادة بناء الثقة بين الأطراف السورية في مرحلة ما بعد الأسد كما جاء في البند السابع. وهذه المسألة، بطبيعتها، تتطلب خطاباً تصالحياً جاداً ومسؤولاً، يمهّد الطريق أمام مشروع وطني شامل يقوم على المصالحة والعدالة الانتقالية، ويرتكز إلى لغة جامعة وسلمية تُعلي من شأن المواطنة والانتماء المشترك.

غير أن تحقيق هذا الهدف لا يمكن أن يتم من دون أدوات واضحة ومؤسسات متابعة. إذ يقتضي الأمر تشكيل لجان متخصصة تُعنى بتهيئة البيئة السياسية والاجتماعية لهذا التحول، وهي خطوة لا تزال غائبة حتى الآن. من هنا تبرز أهمية عقد مؤتمرات محلية ووطنية جامعة، سواء في دمشق أو الرقة، بشكل متبادل ومشترك، بما يساهم في تفكيك رواسب التحريض والكراهية، ويخلق مناخاً مؤاتياً لانطلاق عملية سلمية واندماجية حقيقية للدولة والمجتمع.

كما أن هذا النهج التصالحي لا يجب أن يُحصر فقط في شمال شرقي سوريا، بل يجب أن يشمل كافة الجغرافيا السورية، بما في ذلك المنطقة السنّية في العمق السوري، والسويداء، ودرعا، والساحل، والبادية، ودير الزور. ففكرة إعادة بناء الدولة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال مشاركة شاملة وعادلة، تُنهي منطق التهميش وتؤسس لعقد اجتماعي جديد يُعيد تشكيل هوية سوريا على قاعدة المواطنة والمساواة.

لكي تتحقق البنود الواردة في الوثيقة بشكل فعلي، فإن الصيغة القانونية التي سيتم التوافق عليها بين اللجان المنبثقة عنها يجب أن تُعتمد بوصفها وثائق رسمية مُعترف بها على مستوى الدولة. ويتطلب ذلك، بطبيعة الحال، ضمانات إقليمية ودولية، لضمان التنفيذ  والمتابعة والالتزام، كما ينبغي لهذه الصيغة أن تنسجم مستقبلاً مع الدستور السوري الجديد المزمع تشكيله.

ومع ذلك، فإن التقدم الحقيقي في هذا المسار لن يكون ممكناً دون إسهام فعّال وخلاق من قبل المتفاوضين، وخصوصاً من جانب اللجان الممثلة لشمال شرقي سوريا. فنجاح أي اتفاق يتوقف على القدرة على إنتاج حلول إبداعية تعبّر عن تطلعات الشعب، وتلبي التضحيات الكبيرة التي قدمها السكان المحليون، إضافة إلى مطالب وحقوق المهجّرين السوريين.

من الضروري أيضاً أن تكون الصيغة النهائية للاتفاق قابلة للتطبيق على مستوى الوطن بأكمله، وألا تقتصر على مناطق الإدارة الذاتية فقط. فالمطلوب هو صياغة رؤية شاملة تمهّد لإعادة بناء الدولة السورية على أسس جديدة، وتعكس هوية وطنية جامعة تُجسّد تطلعات المجتمع السوري بكل مكوناته في المستقبل.

فرهاد حمي: كاتب وصحفي مهتم بشؤون الشرق الأوسط وسوريا. كتب في العديد من الصحف ومراكز الدراسات.

بين منطق «من يحرر يقرر» والرؤية التشاركية: قراءة في اتفاق الإدارة الذاتية ودمشق (1)

«دولة المواطنة» و«القضية الكردية» في ضوء اتفاق آذار (2)