الساحة السورية: تركيا تخسر وإسرائيل تحصد

تكمن المأساة السورية على النحو التالي: بلد «قريب من كل شيء» – من إسرائيل وتركيا والخليج وأمريكا – لكنه في الوقت نفسه «أبعد ما يكون» عن الاستقرار، دولةً ومجتمعاً. النتيجة: سيادة ممزقة، مجتمع محطّم، ودولة تتحرك كـ «زومبي سياسي»: لا تموت تماماً، ولا تعود إلى الحياة. إنها ليست مجرد مأساة، بل تكرار نفس الأدوات القديمة، لكن الآن وقد تحولت إلى كابوس جماعي لا يمكن الخروج منه إلا بالاعتراف بأن اللعبة ذاتها – لعبة التوظيف الجهادي – هي المشكلة.

فرهاد حمي

صار مألوفاً، بل متوقعاً، أن تُحجب خلف كل مجزرة أو قصف جوي على سوريا مواجهةٍ مباشرة بين تركيا وإسرائيل. نحن كسوريين نغرق في حساب الخسائر الملموسة: دماء المدنيين، الخراب العمراني، والمزيد من التآكل في البنية التحتية. لكن خلف هذه الصورة «المحلية»، تتبدى معادلة أخرى: الغلبة تميل دوماً إلى إسرائيل، لا بفعل الحدث ذاته، بل بحكم تفوقها العسكري والتكنولوجي الذي يحوّل أي صراع إلى استعراض متكرر للقوة.

تركيا، في المقابل، لا تمتلك سوى تحريك أدوات بالية: أنظمة جهادية مؤقتة، تكتيكات مستهلكة، أشبه بمحاولة اللعب بأوراق انتهت صلاحيتها. المفارقة أن إسرائيل لا تكتفي بتأطير المعركة في هذه الساحة، بل تستثمر في كل ارتجاج يحدث داخل سوريا، لتعيد إنتاج موقعها كقوة «محايدة-مستفيدة» من مأساة الآخرين.

آخر التجليات كان الاستهداف الإسرائيلي المتزامن لمناطق في تدمر وحمص وريف اللاذقية، لحظة وجود وفد عسكري سوري في أنقرة. هنا يتكثف المشهد: بينما تُقصف المدن، تنعقد الاجتماعات الدبلوماسية. فالرسالة تقول: الصراع الحقيقي، يجري بين قوى إقليمية تستخدم سوريا كمسرح جانبي، حيث الدم السوري ليس إلا وقوداً لاستراتيجيات تتجاوز  إرادته.

سقوط ثلاث إيديولوجيات

منذ منتصف القرن العشرين، واجهت إسرائيل ثلاثة أنماط أيديولوجية كبرى حملت مشاريع وجودية في مواجهتها: القومية العربية، الإسلاموية السنيّة، والشيعية الإيرانية. جميع هذه النسخ انتهت إلى الهزيمة أو التراجع. وقد كشفت رمزية السابع من أكتوبر مجدداً حدود هذه المشاريع، بعد انهيار الأذرع المتمثلة في النظام السوري وحركة حماس وحزب الله، إلى جانب الانكفاء الإيراني.

لكنّ أنظمة الشرق الأوسط تبدو وكأنها تجسد المثل الشعبي: « من لم يتعظ من التجارب، يكرر حماقته بلا نهاية». هذا هو الواقع مع أنقرة خصوصاً، التي تستمر بمحاولة استثمار الساحة السورية باستخدام نفس الأدوات القديمة. المفارقة الموجعة أنّ هذه اللعبة ليست بريئة: المجتمع السوري، الذي خرج لتوه من أتون حرب أهلية مدمرة، يُترك أمام تكاليف وجودية هائلة، قد تتحول به إلى نموذج حيّ لما يمكن تسميته «دولة الزومبي» حيث تتحرك الدولة والمجتمع بلا حياة حقيقية، أسيرة أدوات وسياسات تعيد إنتاج الفشل ذاته.

يصعب الإمساك بخيوط ما يجري في سوريا من مذابح وانهيارات اجتماعية إذا لم نلتفت إلى الدور المحوري لإعادة تدوير الأدوات الجهادية بنسختها السورية. هذه التشكيلات لا تُستخدم في خط واحد، بل بطريقة مزدوجة ومتناقضة في آن: فهي تُقدَّم كقوة مواجهة وموازنة لإسرائيل، وفي الوقت نفسه تُوظَّف كبوابة لتطبيع تدريجي معها. ما يبدو كتناقض هو في الحقيقة جزء من لعبة أوسع، فهذه الأدوات فُرضت على المجتمع السوري عبر تلاقي مصالح الفواعل الإقليمية والدولية، كأنها «حَلٌّ جاهز» لمشكلة لا تُحل.

لكن جوهر المعضلة أعمق: هذه البُنى، بخطابها الخلاصي والأصولي، تُجرِّم فكرة السيادة الشعبية ذاتها. تستمد شرعيتها بشكل فَجّ من المقدس، فتبدو وكأنها خارجة من التاريخ الحديث، أو بالأحرى، كأنها بقايا الماضي التي أُعيد استحضارها لتجعل السوريين سجناء حاضرٍ متوحش. النتيجة أن المجتمع السوري يُحرم من أبسط حقوقه السياسية، ويُساق ليكون أسيراً دائماً لآلة القمع والاعتقال والقتل.

ولتثبيت هذا الواقع، تُدار حرب نفسية بلا انقطاع عبر شبكات التواصل الاجتماعي والقنوات الإعلامية المزيّفة، وراءها غرف عمليات مظلمة تصنع خطاباً واحداً: تدليس العقل السوري وتطويعه بالخوف. الهدف ليس فقط التلاعب بفكرة التهديد، بل أيضاً تزييف الواقع حتى يغدو السوري مقتنعاً أن حياته مجرّد مشهد في لعبة خالية من أي اعتراف بالإنسانية.

بهذا، تتحول الآلة إلى كابوس مزدوج: عنف واقعي يحطّم الجسد، وخداع افتراضي يمزّق الروح. النتيجة أن المجتمع السوري يعيش بين موتين متوازيين، مادي ونفسي، وكأن الحياة نفسها لم تعد سوى وضعية «معلّقة»، نصف وجود ونصف فناء.

الرسالة الضمنية لهذه الحملة تتكشف بوضوح: الكارثة السورية ليست مدخلاً إلى بديل سياسي أو أفق جديد، بل هي إعادة إنتاج زمن رثّ، نظام متحجّر يرفض أن يختفي، ويتغذى على استمرارية العدم.

مفارقات أنقرة

ذلك الكائن العدمي، الذي تظن أنقرة أنها توازن به حضور إسرائيل في المنطقة، يكشف مفارقة صارخة: من يُسوَّقون كأعداء وجوديين لإسرائيل هم، في المستوى البنيوي العميق، الأكثر قابلية للتطبيع معها. هنا يلتقي العدو والضامن، التهديد والضمانة، في جهة واحدة. التناقض ليس عرضياً، بل هو قلب اللعبة السياسية السورية، حيث ما يُعرض كخطر يصبح في الوقت نفسه أداة للصفقة.

هذا التناقض هو المحرّك الأساسي للّعبة. واشنطن في عهد ترامب، ومعها أنقرة وبعض عواصم الخليج، لم تتعامل مع هذه الازدواجية كخلل، بل كـ«سيولة سياسية» يمكن توظيفها في كل اتجاه: حليف عند الحاجة، عدو عند الضرورة. الجهادي هنا ليس فاعلاً مستقلاً، بل شبحاً يتأرجح بين موقعين متناقضين: العدو–الضامن.

وما يُسوَّق كأداة لتثبيت الاستقرار ينفلت دوماً من عقاله، ليعود في هيئة كابوس. هذه «الفرقة الناجية» ليست بديلاً سياسياً، بل هي ذلك المستحيل الذي لا يمكن استيعابه أو محوه، لكنها تفرض نفسها بلا توقف: عنف فجائي، تمزق دائم، وحضور يذكّر السوريين بأنهم أسرى لحاضر لا يسمح بالمستقبل.

تكمن المأساة السورية على النحو التالي: بلد «قريب من كل شيء» – من إسرائيل وتركيا والخليج وأمريكا – لكنه في الوقت نفسه «أبعد ما يكون» عن الاستقرار، دولةً ومجتمعاً. النتيجة: سيادة ممزقة، مجتمع محطّم، ودولة تتحرك كـ «زومبي سياسي»: لا تموت تماماً، ولا تعود إلى الحياة. إنها ليست مجرد مأساة، بل تكرار نفس الأدوات القديمة، لكن الآن وقد تحولت إلى كابوس جماعي لا يمكن الخروج منه إلا بالاعتراف بأن اللعبة ذاتها – لعبة التوظيف الجهادي – هي المشكلة.

لنعد إلى تركيا. في لحظة ما، كان بوسعها- ولا يزال- لو التقطت «الفرصة التاريخية» بعد سقوط الأسد، أن تعيد التوازن مع إسرائيل. لكن بأي أدوات؟ قطعاً ليس عبر ورقة الجهادية السورية. لماذا؟ لأن فكرة ابتزاز إسرائيل من خلال زرع لغم الجهاديين هي بالضبط التعريف العملي للعبث السياسي.

إسرائيل هنا ليست الضحية التي تزعم الدفاع عن نفسها. على العكس: هي المستفيد الأول. وهي التي تعيد قلب الطاولة في اللحظة المناسبة، هي التي تستثمر كل موجة توحش سني صاعد في سوريا، لتفرض معادلتها يوماً بعد يوم. النتيجة؟ ليست خسارة لإسرائيل بل انفجار المجتمع السوري نفسه.

تتجلى مفارقة أنقرة على النحو التالي: فهي تتصرف كما لو أنها تمسك «ورقة ضغط»، بينما الحقيقة أن هذه الورقة تحترق بين أصابعها، وتترك الرماد يتساقط على رأس السوريين. لعبة الابتزاز تتحول إلى لعبة انكشاف، فالطرف الذي يُبتز ليس إسرائيل، بل المجتمع السوري الذي يدفع ثمن الجنون هذه.

والسؤال الغائب هنا هو: ماذا لو كانت تركيا فعلاً دولة قانون في ظل هذه السياسة الجنونية التي يقودها هاكان فيدان وبقية المؤسسات الأمنية والعسكرية في سوريا؟ الجواب واضح وبديهي: سيجلس هاكان فيدان، ومعه القيادات العسكرية والأمنية، في قفص الاتهام بتهمة التورط في مجازر السويداء والساحل، ودفع سوريا نحو منطق التقسيم. هؤلاء الذين يرفعون شعار «الوحدة» يعملون فعلياً كمهندسي التفتيت. وهنا يكمن التناقض بامتياز: الخطاب ينطق بـ«الوحدة»، والفعل يكتب بـ «التقسيم».

ماذا قال أوجلان؟

أوجلان، الذي يحاول جاهداً كبح السلوك التركي هذه تجاه سوريا، اختصر المسألة بوضوح من سجنه في إيمرالي: حتى لو اجتمعت الأمة الإسلامية بأسرها، واستنفرت القانون الدولي أو اخترعت أدوات جديدة لمواجهة إسرائيل، فالنتيجة ستظل واحدة: الفشل.

السبب لا يكمن في قصور الأداة، بل في البنية ذاتها. المشكلة ليست «كيف نقاتل»، بل في المنطق الذي ينتج هذا القتال. هنا تنكشف المفارقة: حين تكون البنية معطوبة، فإن كل أداة تتحول إلى نسخة جديدة من العجز نفسه.

الحل الذي يطرحه أوجلان أمام القادة الأتراك لا يشبه عنتريات صدام حسين وهو يتشبث بالشعارات على حبل المشنقة، بل يتجه في مسار مختلف تماماً: الديمقراطية الراديكالية. هذا النموذج ليس مجرد آلية حكم، بل شكل مجتمعي–دولتي يحمي كرامة الفرد والجماعة، ويصون الدستورية، ويقيم حصانة داخلية ضد الاستعمار التقليدي والتوسع الإسرائيلي في آن.

الملفت هنا أنّ المعركة الحقيقية لا تُخاض على الحدود، بل في الداخل: كيف يُعاد بناء الدولة بحيث لا تتحول إلى ثغرة مفتوحة؟ كيف يصبح الداخل نفسه حصناً عصياً على الاختراق؟ بمعنى آخر، التحدي ليس صدّ العدو الخارجي، بل منع إعادة إنتاج بنياتٍ هشّة تجعل الغزو ممكناً من الأساس.

عند هذه النقطة تظهر التناقض التركي المركّب في سوريا: بدل أن تُختبر وصفة أوجلان، نرى البعثية وقد ارتدت لحية أحمد الشرع، كامتداد مباشر للعالم القديم، بخطاب «فصامي» وأدوات مهترئة لا تزال تُستحضر كأنها صالحة.

المشهد يزداد سخرية حين نلتفت إلى باهجلي وأردوغان: فبينما يرفعان الخطاب الناري ضد إسرائيل صباحاً ومساءً، يراهنان على الساحة السورية نفسها لإعادة إنتاج الأدوات التقليدية ذاتها في لعبة التوازن والهيمنة. النتيجة؟ إعادة تدوير الماضي وكأن الحاضر مجرد مسرح لإعادة عرض قديم، حيث «العدو» و«الضامن» يتبادلان المواقع بلا توقف، فيما يبقى السوري أسيراً لعنف يتجدد باسم حماية الاستقرار.

بعبارة أخرى: تتحدث أنقرة عن «مواجهة إسرائيل»، لكن لا أحد يتحدث عن السوري نفسه، عن كرامته، عن قراره السيادي، وعن إرادته في إدارة شؤونه المنهكة. هكذا تُفهم وجهة النظر التركية في المحصلة: العدو المعلن هو إسرائيل، لكن الضحية الفعلية هو المجتمع السوري.

أشباح أنور الباشا  وأتاتورك

القومية التركية المثالية والإسلاموية السياسية تبدوان متناقضتين، لكن في العمق تشتركان في خيط واحد: فكرة أنّ «السيادة التركية كما هي لا تكفي». هذا هو إرث أنور باشا: الطموح الدائم لتجاوز الحدود القائمة نحو مشروع يضع تركيا في قلب الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

اليوم تتحرك الدولة التركية داخل خيال مزدوج: من جهة، أيديولوجيا «العثمانية الجديدة» التي تستحضر ماضياً إمبراطورياً بوصفه وعداً للمستقبل، ومن جهة أخرى قوموية توسعية تعيد إنتاج منطق الدولة–الأمة بكل صلابته. هذه الثنائية تُغذّي مخيال أنقرة عن نفسها كـ«مركز إقليمي» قادر على ابتلاع المال والغاز والثروات براً وبحراً وجواً، وكأنها قطب جاذبية جديد يُعاد رسمه في قلب الشرق الأوسط.

لكن أمام هذا الخيال يقف مفترق حاسم لا يمكن إنكاره: إسرائيل كقوة لا تسمح بتجاوزها، القضية الكردية كجرح داخلي مفتوح، والساحة السورية كأقرب وأكثر الاختبارات إلحاحاً للواقعية التركية. هناك، بالضبط، ستتكشف حدود هذا المشروع: هل هو فعلاً بديل تاريخي، أم مجرد إعادة إنتاج لفائض أزمة إقليمية لا تنتهي؟

يرشدنا التاريخ التركي المعاصر، في بعض جوانبه، لفهم هذا الالتباس القائم حالياً: ففي الوقت الذي اندفعت فيه النخب المتطرفة بأحلام طوباوية في مستهل الحرب العالمية الأولى، كان كمال أتاتورك في بدايات الجمهورية أكثر واقعية بكثير. تراجع إلى حدود لوزان، واعترف بالواقع الدولي، وحدد سقفاً لإمكانيات تركيا. وعلى النقيض تماماً، أعاد المغامرون الأتراك في جمعية «تركيا الفتاة» – أنور وطلعت وجمال – إنتاج منطق الطموح الإمبراطوري الذي يتجاوز القدرة الفعلية للدولة. وهكذا انتصرت واقعية أتاتورك على هذه المغامرة الطفولية، مثبتة أن العقلانية والتقدير الواقعي هما السبيل لتثبيت الدولة في مواجهة التحديات الكبرى.

بعبارة أخرى: التاريخ التركي يعيد نفسه، لكن لا كأطروحة حداثية بل كمهزلة متكررة، دولة تتأرجح بين «الواقعية الأتاتوركية» و«الهذيان الإمبراطوري»، بينما الواقع يفرض أسئلة أبسط بكثير: ماذا عن إسرائيل؟ ماذا عن الكرد؟ ماذا عن سوريا الغارقة في الجحيم؟

الواقعية، في معناها الأبسط، تقول لتركيا: إذا أردتِ أن تكوني دولة إقليمية طبيعية، فابدئي من الداخل، سلام مع الكرد، ترميم البيت الداخلي، بناء علاقة مع كرد الجوار على قاعدة «الحق» لا على منطق الغلبة. عندها فقط يمكن لأنقرة أن تتموضع كنموذج مختلف، لا كنسخة محدثة من الاستعمار القديم، بل كاستثناء يذيب الجليد في شرق أوسط مأزوم منذ قرن.

 بدلاً من هذا المسار، نرى رهاناً على مواجهة إسرائيل في الساحة السورية عبر أدوات من طراز «الفرقة الناجية» لأحمد الشرع. والنتيجة معروفة مسبقاً: ليس إضعاف إسرائيل، بل إكمال عملية تدمير ما تبقى من المجتمع السوري وسيادته، وتحويل المشروع التقسيمي إلى واقع حيّ. إسرائيل لا تُبتز عبر الجهاديين، بل بالعكس، هي التي تتغذى على هذا التوحش وتعيد إنتاجه كشرط وجودها اليومي.

السؤال إذاً: هل تستطيع تركيا أن تعتمد «براديغما جديدة» كما يكرر أردوغان وباهجلي؟ وهل هذه البراديغما مجرد شعار؟ وهل هي وعود بلا مضمون، جزء من لعبة الخداع البنيوي حيث التناقض بين القول والفعل ليس خطأ عرضياً بل بالضبط ما يُبقي اللعبة قائمة؟

وهنا نصل إلى المفارقة الأخيرة: ما يُعلن كـ «خيار عقلاني» (السلام، الدستورية، إعادة البناء) يظل محجوباً وراء رغبة غريزية في إعادة إنتاج نفس الأدوات القديمة. تركيا، مثل سوريا، مهددة بالتحول إلى ما يشبه الزومبي السياسي: دولة تتحرك، تصرخ، تخطب، لكنها بلا حياة حقيقية، أسيرة بنية مرضية لا تعترف بحدودها، وتندفع نحو المزيد من القمع الداخلي ضد الأحزاب السياسية والفضاء العام. كما تهدد شمال شرق سوريا، وهم الأكثر استعداداً وعقلانية ليكونوا حلفاء محتملين في المستقبل، أسوة بما كانوا عليه معاً في تحالف الأخوة الذي دام ألف عام، على حد تعبير باهجلي وأردوغان.

أنقرة اليوم أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما أن يُفسَح المجال للعقل والحكمة السياسية كي تضبط إيقاع اللعبة، أو أن يُترك «العقل الغرائزي» ليستمر في التحكم بمسارها. في السيناريو الثاني، لن تكون سوريا مجرد «علبة باندورا» تفتح على المجهول، بل مختبراً لإعادة إنتاج كل أشكال الشرور السياسية في المنطقة، من الطائفية إلى السلطوية إلى الحروب بالوكالة.

النتيجة لن تقتصر على الداخل السوري؛ الارتداد سيصيب تركيا نفسها. فبدلاً من أن تترسخ كقوة إقليمية، ستجد الأمة التركية محاصَرة داخل الأناضول، معزولة سياسياً وجغرافياً، تماماً كما يحذّر باهجلي، لكن هذه المرة لا كخطاب تعبوي، بل كقدر سياسي يُعاد فرضه.

 

فرهاد حمي: كاتب وصحفي مهتم بشؤون الشرق الأوسط وسوريا. كتب في العديد من الصحف ومراكز الدراسات.