مرحبا بكم في حضارة «مفارقة الكاذب»

سلافوي جيجك

لقد تم مناقشة ما يُسمى بمفارقة الكاذب، عبارات مثل «كل ما أقوله كذب»، بلا نهاية، منذ اليونان والهند القديمة وحتى فلسفة القرن العشرين. تكمن المشكلة في أنه إذا كانت هذه العبارة صحيحة، فإنها تكون خاطئة (أي أن كل ما أقوله ليس كذباً)، والعكس صحيح. وبدلاً من أن أضيع في شبكة لا تنتهي من الحجج والردود، سأنتقل إلى جاك لاكان، الذي يقدم حلاً فريداً من خلال التمييز بين المحتوى المُصرّح به في القول والموقف الذاتي الضمني الذي تحمله هذه العبارة: أي التمييز بين محتوى ما تقوله والموقف الذاتي الذي يتم التعبير عنه أو تضمينه فيما تقوله.

في اللحظة التي نقدم فيها هذا التمييز، نرى فوراً أن عبارة مثل «كل ما أقوله كذب» يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة بحد ذاتها. «أنا أكذب دائماً» يمكن أن تعبر بشكل صحيح عن التجربة الذاتية لوجودي كله بوصفه غير أصيل، مزيفاً. ومع ذلك، فإن العكس أيضاً صحيح: العبارة «أعرف أنني نكرة/حقير» يمكن أن تكون صحيحة حرفياً، لكنها خاطئة على مستوى الموقف الذاتي الذي تدّعي التعبير عنه، فهي توحي بأنه، بمجرد قولي لذلك، فإنني بطريقة ما أُظهر أنني لست «حقيراً» بالكامل، لأنني صادق مع نفسي.

ويجب أن يكون ردنا على ذلك اقتباساً مُحوّراً لمقولة شهيرة لغروشو ماركس: «تتصرف كحقير وتعترف بأنك حقير، لكن هذا لن يخدعنا، أنت حقير!»

لماذا نُضيّع الوقت في مفارقات نوقشت بلا نهاية كهذه؟ لأننا في عصر «ما بعد الحقيقة» وصعود الشعبوية اليمينية، بلغ استخدام هذه المفارقة حدَّه الأقصى: لا يمكن فهم الخطاب السياسي اليوم دون التمييز بين ما يُقال كفعل (المُصرّح به) وطريقة القول (الإفصاح). لندخل مباشرة في صلب الموضوع. بعد إعادة انتخاب ترامب في عام 2024م، قامت ألكساندريا أوكاسيو، كورتيز (التي احتفظت بمقعدها في الكونغرس) بنداء علني إلى أولئك من ناخبيها الذين صوتوا أيضاً لترامب، تطلب منهم أن يشرحوا سبب هذا الاختيار الغريب والمتناقض. وقد اكتشفت أن السبب الغالب هو أن كلاً من ترامب وهي، على عكس الحسابات المتلاعبة لكامالا هاريس وغيرهم من الديمقراطيين، بدا أكثر صدقاً في نظرهم.

لهذا السبب أيضاً، عندما يتم الإمساك بترامب وهو يتناقض أو يكذب بشكل صريح، فإن هذه المصارحات لا تضرّه بل تساعده: أنصاره يرون في كذبه دليلاً على أنه يتصرف كإنسان عادي لا يعتمد فقط على مستشاريه الخبراء، بل يتحدث بصراحة عمّا يجول في ذهنه. وبمصطلحاتنا، فإن التناقضات والأكاذيب في محتوى كلام ترامب المُصرّح به تعمل كدليل على أنه، على مستوى القول (الإفصاح كاسم وليس كفعل)، يتكلم كشخص أصيل وصادق، وهو ما يُعدّ دليلاً على أن الموقف الضمني في الإفصاح يمكن أن يكون مزيفاً أيضاً.

الكذب الأكثر فاعلية هو الكذب الذي يحتوي على الحقيقة، الكذب الذي لا يُقدِّم إلا بيانات واقعية فقط

الحقيقة الذاتية تعارض الحقيقة الواقعية بطريقة تشبه التعارض بين الهستيريا والعصاب الوسواسي: فالأولى هي «حقيقة في هيئة كذبة»، والثانية «كذبة في هيئة حقيقة». اليوم، يمارس الشعبويون وأنصار «الصوابية السياسية PC» من الليبراليين اليساريين شكلين متكاملين من الكذب يتبعان هذا التمييز بين الهستيريا والعصاب الوسواسي: فالهستيري يقول الحقيقة في هيئة كذبة (ما يُقال ليس صحيحاً حرفياً، لكنه يعبّر من خلال الكذبة عن شكوى حقيقية)، بينما ما يدّعيه العصابي الوسواسي يكون صحيحاً حرفياً، لكنه «حقيقة تخدم كذبة». الشعبويون وأنصار الصوابية السياسية يستخدمون كلا الاستراتيجيتين.

أولاً، يلجأ كلاهما إلى الأكاذيب الواقعية عندما تخدم هذه الأكاذيب ما يراه الشعبويون «الحقيقة العليا» لقضيتهم. فالأصوليون الدينيون يدافعون عن «الكذب من أجل المسيح». على سبيل المثال، من أجل منع «الجريمة المروعة» المتمثلة في الإجهاض، يُسمح بنشر «حقائق» علمية زائفة حول حياة الأجنة والمخاطر الطبية للإجهاض؛ ومن أجل دعم الرضاعة الطبيعية، يُسمح بتقديم الادعاء بأن الامتناع عن الرضاعة يسبب سرطان الثدي على أنه حقيقة علمية، وهكذا.

يقوم الشعبويون المناهضون للهجرة، بلا خجل، بتداول قصص غير موثقة عن حالات اغتصاب وجرائم أخرى ارتكبها لاجئون، من أجل إعطاء المصداقية لـ«بصيرتهم» بأن اللاجئين يشكّلون تهديداً لطريقتنا في الحياة. وغالباً ما يتصرف الليبراليون المدافعون عن الصوابية السياسية بطريقة مماثلة: فهم يتغاضون عن الفروقات الفعلية في «أنماط الحياة» بين اللاجئين والأوروبيين، لأن مجرد الإشارة إليها قد يُعتبر ترويجاً للمركزية الأوروبية. تذكّر قضية مدينة روذرهام في المملكة المتحدة، حيث اكتشفت الشرطة قبل نحو عقد من الزمان أن عصابة من الشبان الباكستانيين كانت تغتصب بشكل منهجي أكثر من ألف فتاة بيضاء فقيرة، وقد تم تجاهل هذه البيانات أو التقليل من شأنها لتجنّب إثارة الإسلاموفوبيا.

الاستراتيجية المعاكسة، أي الكذب في هيئة الحقيقة، تُمارس أيضاً على نطاق واسع من كلا الجانبين. فالشعبويون المناهضون للهجرة لا يكتفون بنشر الأكاذيب الواقعية، بل يستخدمون أيضاً ببراعة أجزاء من الحقائق لإضفاء طابع من الصدق على كذبتهم العنصرية، كما أن أنصار الصوابية السياسية يمارسون هذا النوع من الكذب باستخدام الحقيقة: ففي معركتهم ضد العنصرية والتمييز الجنسي، يستندون غالباً إلى حقائق مهمة، لكنهم كثيراً ما يقدّمونها بتأويل مضلّل. فاحتجاجات الشعبويين تُسقِط الإحباط الحقيقي والشعور بالفقدان على «العدو الخارجي»، بينما يستخدم اليسار المدافع عن الصوابية السياسية نقاطه الصحيحة (مثل كشف التمييز الجنسي والعنصري في اللغة، إلخ) ليُعيد تأكيد تفوقه الأخلاقي، وبالتالي يمنع حدوث تغيير اجتماعي-اقتصادي حقيقي.

المفارقة العظمى هنا هي أن اليمين الشعبوي يمارس النسبية التاريخية بشكل أكثر عنفاً من اليسار، رغم أنه يدينها نظرياً (إن كان من الممكن حتى اعتبار تبريراته الذاتية «نظرية»). ومع ذلك، فإن الموقف الصحيح لا يتمثل ببساطة في التمسك بالحقيقة الواقعية: فبمعنى ما، هناك «حقائق بديلة»، وليس بالطبع بالمعنى الذي يُشكك في حدوث الهولوكوست أو لا. (وبالمناسبة، فإن جميع مراجعي الهولوكوست الذين أعرفهم، من ديفيد إيرفينغ فصاعداً، يناقشون بطريقة تجريبية صارمة لتحقّق البيانات، ولا أحد منهم يستند إلى النسبية ما بعد الحداثية!).

فالبيانات تشكّل مجالاً واسعاً ومعقداً لا يمكن اختراقه كلياً، ونحن دائماً نقترب منها من خلال ما تُسميه التأويلية «أفقاً معيناً للفهم»، حيث نمنح بعض البيانات أهمية خاصة ونتجاهل غيرها.

كل تاريخنا هو، في جوهره، مجرد «حكايات»، تركيبات من بيانات (منتقاة) تُدمَج في سرديات متّسقة، وليست نسخاً فوتوغرافية للواقع. فعلى سبيل المثال، يمكن لمؤرخ معادٍ للسامية أن يكتب بسهولة عرضاً لدور اليهود في الحياة الاجتماعية في ألمانيا خلال عشرينيات القرن الماضي، مشيراً إلى أن مجالات كاملة (مثل المحاماة، الصحافة، الفن) كانت تهيمن عليها أعداد كبيرة من اليهود، وكل هذا (ربما صحيح إلى حد ما)، لكنه واضح في خدمة كذبة. فالكذب الأكثر فاعلية هو الكذب الذي يحتوي على الحقيقة، الكذب الذي لا يُقدِّم إلا بيانات واقعية فقط.

لا يوجد «تقرير محايد» أو «موضوعي» عن الحرب في الشرق الأوسط أو عن العدوان الروسي على أوكرانيا: لا يمكن قول الحقيقة بشأنهما إلا من منظور منخرط، من موقع الضحية

خذ على سبيل المثال تاريخ دولة ما: يمكن روايته من منظور سياسي (بالتركيز على تقلبات السلطة السياسية)، أو يمكن التركيز على التطور الاقتصادي، أو الصراعات الأيديولوجية، أو بؤس الشعب واحتجاجاته. كل هذه المقاربات قد تكون دقيقة من الناحية الواقعية، لكنها ليست «صحيحة» بنفس المعنى القوي للكلمة. لا يوجد شيء «نسبي» في حقيقة أن التاريخ البشري يُروى دائماً من زاوية معينة، مدعوماً بمصالح أيديولوجية معينة. الصعوبة تكمن في إظهار أن بعض هذه الزوايا المهتمة ليست كلها متساوية في الحقيقة، فبعضها أكثر «صدقاً» من غيرها.

على سبيل المثال، إذا رويت قصة ألمانيا النازية من منظور معاناة أولئك الذين تعرضوا للقمع، أي إذا كانت روايتنا مدفوعة بالاهتمام بالتحرر الإنساني الشامل، فإن هذا ليس مجرد اختلاف في المنظور الذاتي؛ بل إن مثل هذه الرواية للتاريخ تكون «أكثر صدقاً» بشكل جوهري، لأنها تصف بشكل أدق ديناميات الكلية الاجتماعية التي أفرزت النازية. ليست كل «المصالح الذاتية» متساوية، ليس فقط لأن بعضها يُفضَّل أخلاقياً على غيره، بل لأن «المصالح الذاتية» لا تقف خارج الكلية الاجتماعية؛ بل هي نفسها لحظات داخل هذه الكلية، تتشكل من خلال المشاركين النشطين (أو السلبيين) في العمليات الاجتماعية.

لهذا السبب لا يوجد «تقرير محايد» أو «موضوعي» عن الحرب في الشرق الأوسط أو عن العدوان الروسي على أوكرانيا: لا يمكن قول الحقيقة بشأنهما إلا من منظور منخرط، من موقع الضحية.

في الكثير من السياسات التقدمية المعاصرة، لا تكمن الخطورة في السلبية، بل في النشاط الزائف، الرغبة الملحة في أن تكون فاعلاً ومشاركاً. يتدخل الناس طوال الوقت، محاولين «فعل شيء ما»؛ ويشارك الأكاديميون في مناظرات لا معنى لها. التحدي الحقيقي هو أن تتراجع خطوة إلى الوراء وأن تنسحب من كل ذلك

عنوان التحفة المبكرة لكتاب يورغن هابرماس «المعرفة والمصلحة»، ربما أصبح اليوم أكثر صلة من أي وقت مضى. ولكي نُعمّق هذا البُعد أكثر، ينبغي علينا استحضار مفهوم آخر يلعب دوراً حاسماً في التحليل المعاصر للأيديولوجيا: مفهوم «التفاعلية السلبية interpassivity»، الذي قدّمه، الفيسلوف النمساوي، روبرت بفالر. التفاعلية السلبية هي نقيض مفهوم هيغل عن مكر العقل « List der Vernunft»، حيث أكون فاعلاً من خلال الآخر: يمكنني أن أبقى سلبياً، جالساً في الخلف براحة، بينما الآخر يقوم بالفعل بدلاً مني. بدلاً من أن أضرب الحديد بالمطرقة بنفسي، يمكن للآلة أن تقوم بذلك؛ وبدلاً من أن أُدير الطاحونة بيدي، يمكن للماء أن يفعل ذلك: أُحقق هدفي من خلال إدخال كائن طبيعي آخر بيني وبين الشيء الذي أعمل عليه.

يمكن أن يحدث الشيء نفسه على المستوى الشخصي: بدلاً من مهاجمة عدوي مباشرة، أحرض شخصاً آخر على الدخول في شجار معه، بحيث أتمكن من الجلوس ومشاهدة الاثنين وهما يدمران بعضهما البعض براحة. أما في حالة التفاعلية السلبية، فالأمر على العكس تماماً: أكون سلبياً من خلال الآخر؛ أُوكل للآخر الجانب السلبي (التمتع) من تجربتي، بينما أظل أنا منخرطاً بنشاط. (يمكنني مثلاً أن أواصل العمل مساءً بينما جهاز الفيديو يقوم بـ«الاستمتاع» بالعرض بدلاً مني؛ أو يمكنني ترتيب الشؤون المالية لميراث المتوفّى بينما ينوح الآخرون ويبكون نيابة عني).

هذا يقودنا إلى مفهوم «النشاط الزائف»: فالناس لا يتصرفون فقط من أجل إحداث تغيير ما، بل قد يتصرفون أيضاً لمنع حدوث شيء ما، حتى لا يتغير أي شيء. وهنا تكمن الاستراتيجية النموذجية للمصاب بالوسواس القهري: فهو ينشط بشكل محموم من أجل منع الحدث الحقيقي من الوقوع. على سبيل المثال، في موقف جماعي يهدد فيه التوتر بالانفجار، يقوم الشخص الوسواسي بالكلام المستمر دون توقف، لمنع لحظة الصمت الحرجة التي قد تجبر المشاركين على مواجهة التوتر الكامن بشكل مباشر.

في العلاج التحليلي النفسي، يتحدث المصابون بالوسواس القهري باستمرار، يغمرون المحلل بالحكايات والأحلام والتأملات: هذا النشاط المتواصل يغذّيه خوف عميق من أنه إذا توقفوا عن الكلام ولو للحظة، فإن المحلل قد يطرح عليهم السؤال الحقيقي والمهم، بمعنى آخر، هم يتحدثون من أجل إبقاء المحلل في حالة شلل. وحتى في الكثير من السياسات التقدمية المعاصرة، لا تكمن الخطورة في السلبية، بل في النشاط الزائف، الرغبة الملحة في أن تكون فاعلاً ومشاركاً. يتدخل الناس طوال الوقت، محاولين «فعل شيء ما»؛ ويشارك الأكاديميون في مناظرات لا معنى لها. التحدي الحقيقي هو أن تتراجع خطوة إلى الوراء وأن تنسحب من كل ذلك.

غالباً ما يُفضّل أصحاب السلطة المشاركة، وإن كانت نقدية، على الصمت، فقط لإشراكنا في الحوار، ولضمان كسر سلبيتنا المقلقة. إن الإلحاح المستمر على ضرورة الفعل، وضرورة «فعل شيء ما»، يكشف عن موقف ذاتي جوهره عدم الفعل الحقيقي. فكلما تحدثنا أكثر عن الكارثة البيئية الوشيكة، كنا أقل استعداداً لفعل شيء فعلي حيالها. في مواجهة هذا النمط التفاعلي السلبي، الذي نكون فيه نشطين طوال الوقت فقط لضمان ألا يتغير شيء فعلياً، تكون الخطوة النقدية الأولى الحقيقية هي الانسحاب إلى السلبية ورفض المشاركة. هذه الخطوة الأولى تهيئ الأرضية للفعل الحقيقي، للفعل الذي يغيّر فعلياً إحداثيات الواقع القائم.

تزداد الأمور تعقيداً عندما نصل إلى مسألة الاعتذار: إذا جرحتُ شخصاً ما بتعليق وقح، فإن التصرف الصحيح هو أن أقدم له اعتذاراً صادقاً، والتصرف الصحيح من جانبه هو أن يقول شيئًا مثل: «شكراً، أنا أقدّر ذلك، لكني لم أشعر بالإهانة؛ كنت أعلم أنك لم تقصدها، لذلك لا داعي للاعتذار حقاً!» الفكرة هنا، بطبيعة الحال، هي أنه على الرغم من أن النتيجة النهائية هي أن الاعتذار ليس ضرورياً، إلا أنه يجب المرور بكامل عملية تقديمه: عبارة «لا داعي لأن تعتذر» لا يمكن أن تُقال إلا بعد أن أقدم الاعتذار، وهكذا، رغم أن «لا شيء يحدث» من الناحية الشكلية، أي أن الاعتذار يُعلَن بأنه غير ضروري، إلا أن هناك مكسباً في نهاية العملية (ربما حتى تُنقذ الصداقة). ينجح الاعتذار تحديداً من خلال أن يُعلَن بأنه غير ضروري.

تعمل إستراتيجية مشابهة في سياق الاعتذار، حيث يمكن لاعتراف سريع أن يعمل كذريعة لتفادي اعتذار حقيقي («قلت لك آسف، فاسكت وتوقف عن إزعاجي!»).

قدّم ​الحزب الشيوعي الصيني (مثل العديد من الفاعلين السياسيين الآخرين) نموذجاً مشابهاً في استغلال الفجوة بين القول المنطوق (المُصرّح به) وطريقة إعلانه (الإفصاح). فقد تعلّم الصينيون درس فشل غورباتشوف: الاعتراف الكامل والشامل بـ«الجرائم التأسيسية» للنظام لن يؤدي إلا إلى انهيار النظام بأكمله. لذا، يجب أن تبقى تلك «الجرائم التأسيسية» غير معترف بها بالكامل: صحيح أن بعض «مبالغات» و«أخطاء» ماو قد أُدينت (كالقفزة العظيمة إلى الأمام والمجاعة الكارثية التي تبعتها، والثورة الثقافية)، وأن تقييم دنغ شياو بينغ لدور ماو (70% إيجابي، 30% سلبي) أصبح هو الصيغة الرسمية المعتمدة. لكن هذا التقييم يعمل كخاتمة شكلية تجعل أي نقاش أو تفصيل إضافي غير ضروري. وهكذا، حتى وإن كان ماو سيئاً بنسبة 30%، فإن الأثر الرمزي الكامل لهذا الاعتراف يتم تحييده، ليستمر تمجيده كشخصية مؤسِّسة للأمة، مع حفظ جثمانه في ضريح وصورته على كل ورقة نقدية.

نحن هنا أمام حالة واضحة من الإنكار الفتيشي (fetishistic disavowal): فنحن نعلم جيداً أن ماو ارتكب أخطاء وتسبب في معاناة هائلة، ومع ذلك تُبقى صورته نقية بشكل سحري من هذه الحقائق. بهذه الطريقة، يستطيع الشيوعيون الصينيون أن «يأخذوا كل شيء دون أن يخسروا شيئاً»: التغييرات الجذرية التي حدثت في السياسات الاجتماعية (التحرر الاقتصادي) اقترنت مع استمرار حكم الحزب نفسه كما كان من قبل. الإجراء المتبع هنا هو «التحييد» (أو بالأحرى ما سماه فرويد بـ«العزل Isolierung»): تعترف بأشياء مروعة، ولكنك تمنع كل ردود الفعل الذاتية (كالذعر أو الرعب مما حدث). فالملايين من القتلى يتحولون إلى مجرد «حقيقة محايدة». عندما تُبلغ وسائل الإعلام الإسرائيلية (والغربية) اليوم عن دمار غزة، ألا تمارس تحييداً مشابهاً؟ إرهابيو حماس يعذبون ويقتلون، في حين أن ضحايا الجيش الإسرائيلي يُصوَّرون فقط على أنهم قد «تم تصفيتهم» أو «تم إبادتهم».

ثم هناك الشائعات، والتي تعمل بطريقة غريبة فيما يخص الحقيقة: فالحقيقة نفسها، أو الحقيقة الواقعية للشائعة، تُعلَّق (أو بالأحرى تُعامَل باعتبارها غير ذات أهمية، «لا أعلم إن كانت صحيحة، لكن هذا ما سمعته…»)، بينما يحتفظ محتوى الشائعة بفعاليته الرمزية الكاملة، نستمتع بها، ونرويها بشغف. لذا فهي ليست كحالة الإنكار الفتيشي («أنا أعلم جيداً أنها غير صحيحة، ولكن… أؤمن بها على أي حال»)، بل هي عكس ذلك، شيء من قبيل: «لا يمكنني أن أقول إنني أؤمن بأنها صحيحة، أو أنها حدثت فعلاً، ولكن… هذا ما أعرفه». أما فيما يخص ممارسة السلطة، فإن مجال الشائعات يبقى غامضاً وملتبساً.

ما يحدث اليوم هو أنه، مع موجة الشعبوية التي زعزعت استقرار المؤسسة السياسية، بدأت «الحقيقة/الكذبة» التي شكّلت الأساس الإيديولوجي لهذه المؤسسة بالتفكك أيضاً. والسبب الجوهري وراء هذا الانهيار ليس صعود النسبية ما بعد الحداثية، بل فشل المؤسسة الحاكمة ذاتها، التي لم تعد قادرة على الحفاظ على هيمنتها الإيديولوجية

يمكن أن تُعزز الشائعات «القذرة» السلطة ونفوذها (من أتاتورك إلى تيتو)، ولكن الشائعات تلعب أيضاً دوراً حاسماً في كثير من الأحيان في حالات الاضطراب والانفجارات الثورية، بما في ذلك الثورات المناهضة للمهاجرين (فأوروبا اليوم مليئة بالشائعات عن مهاجرين يغتصبون نساءنا، وعن كيفية قيام السلطات بحجب الأخبار عن هذه الجرائم). وهناك أيضاً ما يمكن أن نُسميه «الشائعات الجيدة»، وهي ضرورية لإشعال الانفجار الثوري. والمثال البارز على ذلك هو «الخوف العظيم la Grande Peur»، حالة الذعر العام التي وقعت بين 17 يوليو و3 أغسطس 1789م، في بداية الثورة الفرنسية.

لا أستطيع مقاومة إضافة حالة فريدة من تاريخ السينما إلى هذه القائمة. إذ يميز التوتر بين الالتزام السياسي الشيوعي والانجذاب إلى «الشيء السفاحي incestuous Thing»، العمل السينمائي الفريد للوكينو فيسكونتي؛ فهذا «الشيء السفاحي» يحمل ثقله السياسي الخاص، بوصفه تجلٍّ للمتعة المنحطة (jouissance) للطبقات الحاكمة القديمة في طور الانحلال. وهناك مثالان أسمى لهذا الافتتان القاتل: الأول هو «الموت في البندقية» الواضح، والثاني هو التحفة السابقة الأقل شهرة لكن الأفضل بلا شك، بالأبيض والأسود، «نجوم غامضة من كوكبة الدب Vaghe stelle dell’Orsa»، وهي جوهرة من سينما الغرفة (chamber cinema). ما يشترك فيه الفيلمان ليس فقط الشغف «الخاص» المحرَّم الذي ينتهي بالموت (شغف المؤلف الموسيقي بالصبي الجميل في البندقية، الشغف السفاحي بين الأخ وأخته في Vaghe stelle)، بل في كليهما، فإن ازدواجية التزام الفنان السياسي اليساري (فقد بقي فيسكونتي عضواً في الحزب الشيوعي الإيطالي حتى وفاته) وافتتانه بالمتعة المنحلة، متعة الألم، للطبقة الحاكمة المتدهورة، تعمل بوصفها انقساماً بسيطاً بين ما يُصرح به كفعل (enunciated) وطريقة الإعلان كإفصاح (enunciation).

كأن فيسكونتي، على غرار أفضل الثوريين المتزمتين الطهرانيين، يدين علناً ما يستمتع به شخصياً ويُفتن به، بحيث إن التأييد العلني لضرورة إلغاء حكم الطبقة الحاكمة القديمة يُعاد توظيفه بوظيفة مختلفة، فيصبح أداة لتوفير متعة منحطة ممتزجة بالألم، من خلال عرض تدهور المرء الذاتي كمشهد بصري. أليس الأمر نفسه ينطبق حتى على الأعمال الديستوبية مثل «حكاية الخادمة The Handmaid’s Tale»؟ ألسنا مفتونين سراً بالوصف التفصيلي لاضطهاد النساء الذي، بالطبع، ندينه جميعاً؟

تبدو الشائعات وكأنها تتناسب تماماً مع مأزق اليوم، الذي يصفه كثيرون بـ«موت الحقيقة»، وهو وصف خاطئ بوضوح. إن الإيحاء الكامن وراء استخدام هذا المصطلح هو أنه في وقتٍ ما في الماضي (لنقل حتى ثمانينيات القرن العشرين)، وبالرغم من كل التلاعبات والتشويهات، كانت الحقيقة تسود بطريقة أو بأخرى، وأن «موت الحقيقة» ظاهرة حديثة نسبياً. لكن نظرة سريعة كافية لتفنيد هذا الادعاء: كم من الانتهاكات لحقوق الإنسان وكوارث إنسانية ظلت غير مرئية، من حرب فيتنام إلى غزو العراق؟ فقط تذكر عصور ريغان، ونيكسون، وبوش… لم تكن المشكلة أن الماضي كان أكثر «صدقاً»، بل إن الهيمنة الإيديولوجية كانت أقوى بكثير، بحيث إنه بدلًا من فوضى «الحقائق» المحلية التي نراها اليوم، كانت «حقيقة» واحدة (أو بالأحرى كذبة كبرى واحدة) هي التي تسود في الغالب. في الغرب، كانت هذه «الحقيقة» هي الحقيقة الليبرالية-الديمقراطية (بنسختها اليسارية أو اليمينية).

إن «موت الحقيقة» يفتح بذلك إمكانية لحقيقة أصيلة جديدة… أو لكذبة كبرى أسوأ من سابقتها. أليس هذا بالضبط ما يحدث اليوم مع تراجع الديمقراطية الليبرالية، والتي يتم التعتيم عليها تدريجياً من قبل أشكال متعددة من الفاشية الجديدة، بدءاً من الشعبوية النيُو-إقطاعية إلى السلطوية الدينية؟

ما يحدث اليوم هو أنه، مع موجة الشعبوية التي زعزعت استقرار المؤسسة السياسية، بدأت «الحقيقة/الكذبة» التي شكّلت الأساس الإيديولوجي لهذه المؤسسة بالتفكك أيضاً. والسبب الجوهري وراء هذا الانهيار ليس صعود النسبية ما بعد الحداثية، بل فشل المؤسسة الحاكمة ذاتها، التي لم تعد قادرة على الحفاظ على هيمنتها الإيديولوجية.

يمكننا الآن أن نفهم ما الذي يندب أولئك الذين يرثون «موت الحقيقة» حقاً: إنهم يأسفون على تفكك القصة الكبرى الواحدة التي كانت مقبولة إلى حد ما من قبل الأغلبية، والتي كانت تجلب الاستقرار الإيديولوجي للمجتمع. السر الكامن خلف أولئك الذين يلعنون «النسبية التاريخية» هو أنهم يفتقدون الوضع الآمن الذي كانت فيه حقيقة كبرى واحدة (حتى وإن كانت كذبة كبرى) توفر الخريطة الإدراكية الأساسية للجميع. باختصار، إن من يندبون «موت الحقيقة» هم في الواقع الفاعلون الحقيقيون والأكثر تطرفاً لهذا الموت: شعارهم الضمني هو ذاك المنسوب لغوته، «من الأفضل الظلم على الفوضى»، أي الأفضل كذبة كبرى واحدة من واقع مليء بمزيج الأكاذيب والحقائق. لذا، عندما نسمع ادعاءات تقول إن «انهيار نظام المعلومات» الحالي يؤدي إلى تفكك المجتمع، يجب أن نكون واضحين بشأن معنى ذلك: ليس فقط أن الأخبار المزيفة باتت منتشرة، بل إن ما يتفكك بالفعل هو الكذبة الكبرى التي كانت، حتى وقت قريب، توحّد فضاءنا الاجتماعي.

إن «موت الحقيقة» يفتح بذلك إمكانية لحقيقة أصيلة جديدة… أو لكذبة كبرى أسوأ من سابقتها. أليس هذا بالضبط ما يحدث اليوم مع تراجع الديمقراطية الليبرالية، والتي يتم التعتيم عليها تدريجياً من قبل أشكال متعددة من الفاشية الجديدة، بدءاً من الشعبوية النيو-إقطاعية إلى السلطوية الدينية؟

سلافوي جيجيك: فيلسوف وناقد ثقافي سلوفيني وُلد عام 1949م، اشتهر بدمجه الفلسفة الهيغيلية والماركسية مع التحليل النفسي لفهم الإيديولوجيا والثقافة. برز عالمياً بعد صدور كتابه «الموضوع السامي للإيديولوجيا» عام 1989م، ويُعرف بأسلوبه الاستفزازي واستخدامه الثقافة الشعبية لشرح أفكار معقدة. يعمل باحثاً في جامعة ليوبليانا ويُعد من أبرز المفكرين المعاصرين.

المصدر: slavoj.substack.com