كرة السلة بعد المجازر

جهاد حمي

هاويان يرتديان بزة رسمية وربطات عنق، يلعبان كرة السلة ليلاً في ملعب صغير يبدو محاطاً بإجراءات أمنية. جدران الملعب مطلية حديثاً باللون الأخضر، بما يعكس روح اللاعبين، وكأنما يتمّ وسم المكان برمزية سياسية. أحد اللاعبين، الذي يَظهر بلحية أطول، يبدو ذو أهمية أكبر: يُمنح فرصاً أكثر لتسجيل النقاط. أما الآخر، والذي يؤدي بوضوح دوراً داعماً، فيُحرز بعض السلات أيضاً، لكن مهمّته تبدو أقرب إلى التسهيل والمساندة.

اللعبة ليست تنافساً بين لاعبين، بل أداءً مشتركاً يهدف فقط إلى تسجيل النقاط. لا أثر للمرح أو العفوية؛ وهما من الصفات الأساسية لأي متعة حقيقية في اللعب. إذ عبر العفوية ينفتح فضاء اللعب على الحرية، والارتجال، وإمكانيات لا نهاية لها. أما في غيابها، فلا يبقى ما يُسمّى لعباً، بل أداءً؛ فعلاً مضبوطاً ومنزوعاً من الإبداع، تدفعه النتيجة لا التجربة. لم يعد التركيز على الاستمتاع باللعبة نفسها، حيث تكون العملية – الحركة، التفاعل، واللايقين – هي المكافأة. بل تُوجَّه كل الأنظار نحو النتيجة. يصبح تسجيل النقاط المعيار الوحيد للنجاح، مما يقلص اللعبة إلى عملية محكومة بحسابات أداتية. وهذا يعكس منطق السلطة الاستبدادية: النتيجة هي كل ما يهم، أما الوسائل، سواء أكانت عادلة أو مشروعة أو ذات مغزى، فتُصبح بلا أهمية. مثل ديكتاتور يستولي على السلطة دون اكتراث بالشرعية أو الإجراءات، يلاحق اللاعبون النقاط لا متعة اللعب.

ما وراء الأداء المسرحي في كرة السلة، خاض اللاعبان أحمد الشرع وأسعد الشيباني، لعبة أكثر عنفاً، وذات تبعات جسيمة، مع نسيج سوريا ذاته. شملت هذه اللعبة مجازر موجهة ضد المجتمعات العلوية والدروز، إلى جانب فرض قوانين قمعية وارتدادية تهدف إلى إسكات المعارضة ومحو التعددية المجتمعية والسياسية

تم نشر هذا المشهد المُعد مسبقاً من قبل اللاعب المساند، وزير الخارجية والمغتربين في الحكومة الانتقالية السورية، عبر منصة إنستغرام. الفيديو، المصحوب بموسيقى تصويرية درامية وعالية الكثافة تناسب مؤثرات المقطوعات الدعائية للأفلام الأكشن، مُرفق بتعليق: «على هامش معركة بناء وطننا». يستمر المقطع لأقل من دقيقة ويظهر الرجلين وهما يسجلان بعض النقاط. إلا أن التعب الواضح عليهما يلمح إلى أن الجلسة استمرت لفترة أطول، تم تقليصها لتتوافق مع الإيقاع المفرط لنشاط وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتم التضحية بالمضمون  الواقعي لصالح العرض البصري.

ما وراء الأداء المسرحي في كرة السلة، خاض اللاعبان أحمد الشرع وأسعد الشيباني، لعبة أكثر عنفاً، وذات تبعات جسيمة، مع نسيج سوريا ذاته. شملت هذه اللعبة مجازر موجهة ضد المجتمعات العلوية والدروز، إلى جانب فرض قوانين قمعية وارتدادية تهدف إلى إسكات المعارضة ومحو التعددية المجتمعية والسياسية. هدفهم لا لبس فيه: ضمان بقائهما اللاعبين الوحيدين على الملعب، قادرين على التسجيل بلا تحدٍ أو منافسة أو مساءلة.

يحاول الشرع أن يُخفي الواقع الوحشي الذي يتكشف خارج قاعة كرة السلة. اللعبة، بحركاتها المدروسة، وملابسها الرسمية، والموسيقى الإلكترونية الصاخبة، تُقدّم صورة عن السيطرة، والروتين، بل وحتى الحداثة. وكأن النشاط الترفيهي المُعد مسبقاً يهدف إلى تطهير العنف الشنيع الذي يستمر نظامه في نشره

في مستنقع العنف الذي يغرق فيه هذان اللاعبان الهاويان، المتأنقان بزّي رسمي غريب، قد يتساءل المرء: كيف يمكنهما الاستمتاع بمثل هذه اللعبة؟ وما الرسالة التي يقف وراء نشرها؟ لكن عند الفحص الدقيق، لا يبدو هذا الفعل متناقضاً. بل هو النتيجة المنطقية لمجتمع يُبَضِّعُ (التحويل إلى سلعة) فيه كل شيء، حتى الوحشية، وتُصاغ وتُسوَّق كوسيلة للترفيه. لم تعد وحشية قادة الحكومة الانتقالية اندفاعاً عفوياً من الغضب البدائي؛ بل هي مُعَبَّأة ومُقَدمة بشكل مقبول عبر لغة الأداء. الفيديو الخاص بكرة السلة مُنسَّق بعناية لجمهور يستهلك العنف ليس كتهديد لوجوده، بل كجمالية، وعرض بصري، ومجرد ترفيه لحظي.

في عصر الرؤية الفائقة (Hypervisibility) هذا، كما يشير الفيلسوف الكوري الجنوبي بيونغ-تشول هان، لم يعد العنف والقسوة محصورة في المساحات الخفية والمعزولة الخاصة بالانضباط والعقاب؛ بل أصبحت مسرحاً عاماً، بورنوغرافياً، يُعرض على وسائل التواصل الاجتماعي. ثقافة مهووسة بالعرض الفوري، حيث تتلاشى الحدود بين الحياة والأداء، وحيث تحمل الصورة في كثير من الأحيان وزناً أكبر من الواقع نفسه.

من خلال هذا العرض، يحاول الشرع أن يُخفي الواقع الوحشي الذي يتكشف خارج قاعة كرة السلة. اللعبة، بحركاتها المدروسة، وملابسها الرسمية، والموسيقى الإلكترونية الصاخبة، تُقدّم صورة عن السيطرة، والروتين، بل وحتى الحداثة. وكأن النشاط الترفيهي المُعد مسبقاً يهدف إلى تطهير العنف الشنيع الذي يستمر نظامه في نشره. ومع ذلك، يفشل هذا السعي للتخفي، لأن العرض ذاته هو تجسيد للعنف، وإن كان بشكل أكثر مكراً ورمزية.

لعبة كرة السلة ليست تشتيتاً عن إرهاب الدولة، بل هي الإرهاب نفسه، مُصاغة ومسوّقة كمواد محتوى في عصر الحداثة السائلة

فيديو كرة السلة ليس استراحة من الوحشية، بل هو استمراريتها بشكلها الرقمي. حيث يحوّل الإرهاب السياسي إلى صورة قابلة للاستهلاك، ليصبح شكلاً من أشكال الدعاية الناعمة. العنف ليس غائباً، بل يُعاد تصنيعه، يُقدّم بطريقة مقبولة، بل ومسلية، من خلال الإيقاع، والبصريات، والسخرية. كما يقول الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، فإن الإيديولوجيا اليوم تعمل بشكل أكثر فعالية ليس من خلال إخفاء الواقع، بل من خلال تقديمه علناً بشكل مشوّه ومنحرف يُبقي المتلقين في حالة من السلبية. الفيديو لا يكذب؛ بل يكشف الحقيقة بطريقة تُخفف من وقعها ورعبها. يرى الجمهور الديكتاتور على أنه مرح، حديث، حتى ساخر، لكن هذه اللامبالاة الساخرّة تعمل كدرع، مما يسمح للمجازر بالاستمرار وراء قناع الأداء.

يعكس الفيديو الإيجابية المفرطة (Hyper-positivity) وروح الإنجاز، مما يعكس إيديولوجية تحسين الذات التي تقوم عليها النيوليبرالية. في مثل هذا الإطار، يتم قمع النقد، والصراع، والغضب؛ يجب أن يظهر كل شيء «على ما يرام»، «منتجاً»، و«ملهماً». تُخفي القضايا الهيكلية، الفقر، والحرب، وعدم المساواة، وراء واجهة من الأداء المبتهج. تولّد الإيجابية المفرطة بيئة إعلامية من التحفيز المستمر، مما يُضعف الإدراك ويجعل من الصعب بشكل متزايد التعرف على العلامات الدقيقة للمعاناة أو الظلم. تصبح الرؤية شاملة لدرجة أن لا شيء يُرى حقاً. في نهاية المطاف، الهدف من تصميم هذا الفيديو هو عرض قدرات قادة الحكومة المؤقتة ليتم قبولهم كلاعبين من الدرجة العاشرة -حتى أنهم ليسوا احتياطيين- في لعبة القوة النيوليبرالية الدولية.

تمت كتابة تعليق على الفيديو يقول: «على هامش معركة بناء وطننا». يوحي ذلك بأنه بينما يعصف العنف الشديد «البلاد» خارج قاعة كرة السلة، يتكشف داخلها عرض مختلف، عرض من التمتع الخالي من الهموم والظاهرة الطبيعية. عبارة «على هامش» تشير إلى انفصال عن الوحشية، لكن من المفارقة أن العنف هو الشرط الذي يجعل هذه اللحظة من اللعب ممكنة. تصبح قاعة كرة السلة ملعباً رمزياً حيث لا يُحارب فيه من أجل الأمة فحسب، بل كمكان للاستعراض أيضاً، حيث يتم التمرن على السلطة، وأداء الهوية، وتغطية العنف بالراحة. المعركة في الخارج ليست غائبة؛ بل يتم تجميلها وتحويلها إلى لغة «بناء الوطن».

لعبة كرة السلة ليست تشتيتاً عن إرهاب الدولة، بل هي الإرهاب نفسه، مُصاغة ومسوّقة كمواد محتوى في عصر الحداثة السائلة.

 

جهاد حمي: كاتب مقيم في ألمانيا. يدرس الأدب الإنكليزي والأمريكي في جامعة هامبورغ. تم نشر كتاب له باللغة الإنكليزية مؤخراً بعنوان «ROJAVA IN FOCUS: CRITICAL DIALOUGES» بالاشتراك مع البروفيسور توماس جيفري مايلي.