نعومي كلاين – أسترا تايلور
تعيش الحركة التي تدعو إلى إقامة «دول-مدن تديرها الشركات» لحظة ازدهار غير مسبوقة، ولا تكاد تصدّق حظها الجيد. فلطالما سعت إلى الترويج لفكرة متطرفة، تقول إن على الأثرياء الذين يرفضون دفع الضرائب أن ينشئوا إقطاعياتهم التكنولوجية الخاصة. وتشمل هذه المشاريع بناء دول جديدة على جزر صناعية وسط البحار الدولية، فيما يُعرف بـ«الاستيطان البحري»، أو إنشاء «مدن الحرية» القائمة على الأعمال، مثل «برسبيرا»، وهي في الواقع مجرد مجتمع مغلق فاخر، يجمع بين منتجعات طبية تجميلية خارجة عن الرقابة، على طراز الغرب المتوحش، وكل ذلك على جزيرة تابعة لهندوراس.
ومع ذلك، ورغم دعم كبار المستثمرين مثل بيتر ثيل ومارك آندرسن، فإن أحلامهم الليبرتارية المتطرفة لم تحقق التقدّم المرجو؛ إذ تبيّن أن معظم الأثرياء الذين يحترمون أنفسهم لا يرغبون فعلياً في العيش في مستعمرات بحرية منعزلة، حتى لو كان ذلك يعني ضرائب أقل. أما «برسبيرا»، فربما تصلح لقضاء عطلة وإجراء بعض «الاسترخاء والتحسين للجسد»، إلا أن وضعها القانوني الخارج عن سلطة الدولة يواجه حالياً طعناً في المحاكم.
والآن، وبشكل مفاجئ، أصبحت هذه الشبكة التي كانت تُعد هامشية في السابق، والتي تدعو إلى انفصال الشركات عن سلطة الدول، تحظى بترحيب واسع وتجد الأبواب مفتوحة أمامها في صميم مراكز النفوذ العالمي.
يحلم فاشيو آخر الزمان، بتفتيت الحكومات وتقسيم العالم إلى ملاذات رأسمالية متطرفة، خالية من الديمقراطية، تحت السيطرة المطلقة للأثرياء، محمية بالمرتزقة الخاصين، ومخدومة بالروبوتات الذكية، وممولة بالعملات الرقمية
كانت أول علامة على هذا التغيير في عام 2023م، عندما أعلن دونالد ترامب، خلال حملته الانتخابية، وبشكل غير متوقع، عن نيته إطلاق مسابقة تهدف إلى إنشاء عشر «مدن حرة» على أراضٍ تابعة للحكومة الفيدرالية. في ذلك الوقت، لم تحظَ الفكرة باهتمام كبير، إذ ضاعت وسط سيل يومي من التصريحات المثيرة للجدل. لكن منذ وصول الإدارة الجديدة إلى الحكم، بدأ أنصار فكرة إنشاء دول خاصة بهم، حملة ضغط مكثفة، عازمين على تحويل وعد ترامب إلى حقيقة فعلية.
«الأجواء في واشنطن مشحونة بالحماس بكل ما للكلمة من معنى»، هكذا عبّر تري غوف، رئيس فريق العمل في مدينة برسبيرا، بعد زيارة حديثة إلى مبنى الكابيتول. ويؤكد أن التشريعات التي ستمهّد الطريق أمام مجموعة من مدن-الشركات من المتوقع أن تكتمل بحلول نهاية العام.
مستوحاة من قراءة مشوهة للفيلسوف السياسي ألبرت هيرشمان، بدأ شخصيات مثل غوف، وثيل، والمستثمر والكاتب بالاجي سرينيفاسان في الدفاع عما يسمونه «الخروج»؛ وهو المبدأ الذي ينص على أن أولئك الذين يمتلكون الوسائل لهم الحق في الابتعاد عن التزامات المواطنة، وخاصة الضرائب والتشريعات المثقلة. وذلك، من خلال إعادة تشكيل وإعادة تسمية الطموحات والامتيازات القديمة للإمبراطوريات، يحلمون بتفتيت الحكومات وتقسيم العالم إلى ملاذات رأسمالية متطرفة خالية من الديمقراطية تحت السيطرة المطلقة للأثرياء، محمية من قبل المرتزقة الخاصين، مخدومة من قبل روبوتات الذكاء الاصطناعي وممولة من قبل العملات الرقمية.
دولة الشركات التي تمنح امتيازات للنخبة، والأمم الجماهيرية المحصنة، تتشابهان إلى حد كبير مع التفسير الأصولي المسيحي لفكرة «الاختطاف» كما وردت في الكتاب المقدس؛ حيث يُعتقد أن المؤمنون سيتم رفعهم إلى مدينة ذهبية في السماء، بينما يُترك الملعونون لمواجهة معركة النهاية المروعة على الأرض
قد يبدو من المتناقض أن يدعم ترامب، الذي انتُخب على أساس خطاب قومي يرفع شعار «أمريكا أولاً»، رؤية تدعو إلى إنشاء أراضٍ سيادية يحكمها مليارديرات يتصرفون كأنهم ملوك آلهة. وقد أثير الكثير من الجدل حول المعارك الكلامية الحادة بين ستيف بانون، القوموي الشعبوي المتشدد، والمتحدث باسم حركة «ماغا (اختصار لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً)»، وبين المليارديرات المتحالفين مع ترامب، الذين هاجمهم بانون واصفاً إياهم بـ«الإقطاعيين التقنيين» الذين «لا يكترثون إطلاقاً بالإنسان»، ناهيك عن الدولة الوطنية نفسها. ولا شك أن هناك خلافات داخل التحالف الهش والمركب الذي يقوده ترامب، وقد وصلت مؤخراً إلى ذروتها بسبب الرسوم الجمركية. ومع ذلك، قد لا تكون الرؤى الأساسية لأطراف هذا التحالف متعارضة، كما تبدو للوهلة الأولى.
من الواضح أن أنصار «الدول الناشئة» يتوقعون مستقبلاً تتخلله الصدمات والندرة والانهيار. فمناطقهم الخاصة عالية التقنية أشبه بكبسولات نجاة محصنة، مصممة ليتمتع بها عدد محدود من المختارين بكل رفاهية ممكنة وكل فرصة لتحسين قدرات الإنسان، ما يمنحهم ولأبنائهم أفضلية في مستقبل يزداد وحشية. وبصراحة، فإن أقوى الأشخاص في العالم يستعدون لنهاية العالم، نهاية يسهمون هم أنفسهم في تسريعها بجنون.
وهذه الرؤية لا تختلف كثيراً عن النسخة الجماهيرية منها التي تتبناها القوى اليمينية المتطرفة حول العالم، من إيطاليا إلى إسرائيل، ومن أستراليا إلى الولايات المتحدة. ففي زمن تملؤه المخاطر المستمرة، تعمل الحركات العلنية المتعصبة في هذه الدول على تحويل دولها الغنية نسبياً إلى حصون مسلحة. وتتميّز هذه الحصون بقسوتها في طرد وسجن من تعتبرهم «غير مرغوب فيهم»، حتى لو تطلّب ذلك احتجازهم إلى أجل غير مسمى في مستعمرات عقابية خارج الحدود، من جزيرة مانوس إلى غوانتانامو. وهي لا تقل وحشية في استعدادها لاستخدام العنف للسيطرة على الأراضي والموارد (من مياه وطاقة ومعادن استراتيجية) التي تراها ضرورية لمواجهة الصدمات القادمة.
من المثير للاهتمام أنه في الوقت الذي بدأت فيه نخب وادي السيليكون، التي كانت علمانية في السابق، بالعثور على المسيح، نلاحظ أن كلا الرؤيتين، دولة الشركات التي تمنح امتيازات للنخبة، والأمم الجماهيرية المحصنة، تتشابهان إلى حد كبير مع التفسير الأصولي المسيحي لفكرة «الاختطاف» كما وردت في الكتاب المقدس؛ حيث يُعتقد أن المؤمنون سيتم رفعهم إلى مدينة ذهبية في السماء، بينما يُترك الملعونون لمواجهة معركة النهاية المروعة على الأرض.
المراهنة على نهاية المستقبل بهذا الشكل، والاعتماد على مخبأ محصن للنجاة، هو خيانة، في أبسط صورها، لمسؤولياتنا تجاه بعضنا البعض، وتجاه أطفالنا الذين نحبهم، وتجاه كل كائن حي يشاركنا هذا الكوكب. ونحن نؤمن بأن كلما فهم الناس مدى انغماس اليمين المتطرف في «عقدة نهاية العالم»، زادت إرادتهم في المقاومة، لأنهم سيدركون أن كل شيء أصبح الآن على المحك
إذا كنا نريد أن نواجه لحظتنا الحاسمة في التاريخ، فعلينا أن ندرك الحقيقة: نحن لا نواجه خصوماً كما عرفناهم من قبل، بل نواجه فاشية آخر الزمان.
في تأمله لطفولته تحت حكم موسوليني، لاحظ الروائي والفيلسوف أمبرتو إيكو في مقال شهير أن الفاشية غالباً ما تتسم بـ«عقدة معركة الهرمجدون»، والتي تعني الهوس بفكرة «القضاء على الأعداء في معركة نهائية كبرى». لكن الفاشية الأوروبية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كانت تمتلك أيضاً أفقاً: تصور لعصر ذهبي بعد حمام من الدماء، يكون بالنسبة لأتباعها، زمناً يسوده السلام والطهارة، والحياة الريفية الهادئة. أما اليوم، فالأمر لم يعد كذلك.
في زمننا هذا، الذي يواجه أخطاراً وجودية حقيقية، من الانهيار المناخي إلى الحرب النووية، ومن التفاوت الهائل في الثروة إلى الذكاء الاصطناعي غير المنظم، تبدو الحركات اليمينية المتطرفة المعاصرة مدركة لهذه التهديدات، لكنها في الوقت نفسه، ملتزمة مالياً وأيديولوجياً بتعميقها. ولا تملك هذه الحركات أي رؤية جدية لمستقبل واعد. فما يُعرض على الناخب العادي لا يتعدى كونه نسخاً معاد تدويرها من ماضٍ ولّى، مصحوبة بمتعة سادية قائمة على الهيمنة على مجموعات متزايدة من «الآخرين» الذين تم تجريدهم من إنسانيتهم.
وهكذا نشهد التزام إدارة ترامب بإنتاج سيل متواصل من الدعاية، سواء الحقيقية أو المولدة بالذكاء الاصطناعي، مخصصة بالكامل لأغراض دعائية ذات طابع استعراضي فاضح. مثل مشاهد المهاجرين وهم مكبلون بالأصفاد يُنقلون إلى رحلات الترحيل، على أنغام أصوات السلاسل والأقفال، والتي نشرها الحساب الرسمي للبيت الأبيض على منصة X ووصَفها بـ«ASMR»، في إشارة إلى نوع من الأصوات المصممة لتهدئة الجهاز العصبي. أو عندما نشر نفس الحساب خبر اعتقال محمود خليل، المقيم الدائم في الولايات المتحدة والناشط في الاعتصام المؤيد لفلسطين في جامعة كولومبيا، مع تعليق ساخر: «شالوم، محمود». أو عشرات الصور الاستعراضية لوزيرة الأمن الداخلي كريستي نوم، التي تعكس مزيجاً من السادية والاستعراض، مثل صورها على ظهر حصان عند الحدود الأمريكية المكسيكية، أو أمام زنزانة مكتظة في سجن بالسلفادور، أو وهي تمسك رشاشاً خلال عملية اعتقال لمهاجرين في أريزونا.
لقد أصبحت الأيديولوجيا الحاكمة لليمين المتطرف في زمننا هذا، الذي تتصاعد فيه الكوارث، شكلاً وحشياً من البقاء قائماً على التفوق العنصري.
صحيح أنها مرعبة في شرّها، لكنها في الوقت نفسه تفتح الباب أمام إمكانيات قوية للمقاومة. فالمراهنة على نهاية المستقبل بهذا الشكل، والاعتماد على مخبأ محصن للنجاة، هو خيانة، في أبسط صورها، لمسؤولياتنا تجاه بعضنا البعض، وتجاه أطفالنا الذين نحبهم، وتجاه كل كائن حي يشاركنا هذا الكوكب. إن هذه المنظومة الفكرية تحمل في جوهرها طابعاً إبادياً، وهي خيانة لجمال وروعة هذا العالم. ونحن نؤمن بأن كلما فهم الناس مدى انغماس اليمين المتطرف في «عقدة نهاية العالم»، زادت إرادتهم في المقاومة، لأنهم سيدركون أن كل شيء أصبح الآن على المحك.
في التواء غريب لقصة الطوفان في العهد القديم، لا يكتفي ماسك وأقرانه من مليارديرات التقنية، الذين منحوا أنفسهم سلطات شبيهة بالآلهة، ببناء السفن الفضائية، بل يبدو أنهم يسعون أيضاً لإحداث الطوفان. فالقادة اليمينيون وحلفاؤهم الأثرياء لا يكتفون اليوم بالاستفادة من الكوارث على طريقة «عقيدة الصدمة» ورأسمالية الكوارث، بل يسهمون في افتعال تلك الأزمات والاستعداد لها في الوقت نفسه
خصومنا يعرفون جيداً أننا ندخل عصراً طارئاً، لكنهم استجابوا لذلك بالتمسك بأوهام قاتلة تخدم مصالحهم الشخصية. بعد أن انغمسوا في خيالات الفصل العنصري والبحث عن الأمان في مخابئ محصنة، اختاروا أن يتركوا الأرض تحترق. مهمتنا هي بناء حركة واسعة وعميقة، روحانية بقدر ما هي سياسية، قوية بما يكفي لإيقاف هؤلاء الخونة المجانين. حركة راسخة في الالتزام الثابت تجاه بعضنا البعض، عبر اختلافاتنا وانقساماتنا العديدة، وتجاه هذا الكوكب المعجزة والفريد.
ليس منذ وقت طويل، كان الأصوليون الدينيون هم الذين يستقبلون إشارات نهاية العالم بحماسة سعيدة بشأن الاختطاف المنتظر منذ زمن بعيد. لكن ترامب قد عيّن أشخاصاً يشتركون في تلك العقيدة المنغلقة في المناصب الحساسة، بما في ذلك العديد من الصهاينة المسيحيين الذين يرون أن استخدام إسرائيل للعنف المدمر لتوسيع حدودها ليس جريمة غير قانونية، بل دليلاً سعيداً على أن الأرض المقدسة تقترب من الظروف التي سيعود فيها المسيح، وسيحصل المؤمنون على ملكوتهم السماوي.
مايك هاكابي، السفير الأمريكي الجديد لدى إسرائيل تحت إدارة ترامب، له علاقات قوية بالصهيونية المسيحية، كما هو الحال مع بيت هيغسيث، وزير الدفاع في حكومته. كذلك، كريستي نوم، وراسل فوت، مهندس «مشروع 2025» الذي يقود الآن مكتب الميزانية والإدارة، هما من أبرز المدافعين عن القومية المسيحية. حتى بيتر ثيل، الذي هو مثلي ومعروف بأسلوب حياته القائم على «الحفلات»، سُمِعَ وهو يتحدث مؤخراً عن وصول المسيح الدجال (ملاحظة: هو يعتقد أنه غريتا ثونبرغ، وسنتحدث عن ذلك قريباً).
لكن لا يلزم أن تكون أصولياً كتابياً (المؤمنون بحرفية الكتاب المقدس)، أو حتى دينياً، لتكون فاشياً في آخر الزمان. اليوم، العديد من الأشخاص العلمانيين الأقوياء تبنوا رؤية للمستقبل تتبع سيناريو مشابه للغاية، حيث ينهار العالم كما نعرفه تحت وطأة التحديات، ويظل القلة المختارة فقط على قيد الحياة، مزدهرة في أنواع مختلفة من السفن المحصنة، والمخابئ، والمدن المغلقة تحت شعار «الحرية». في ورقة بحثية نُشرت عام 2019م، بعنوان «تركوهم وراءهم: الهوس بالمستقبل، الاستعدادات وترك الأرض»، وصفت الباحثتان في مجال الاتصال سارة روبرتس وميلي هوجان، الحنين إلى «الاختطاف العلماني»: «في الخيال التسارعي، المستقبل ليس عن تقليل الأضرار أو وضع حدود أو الاستعادة، بل هو سياسة تدفع نحو نهاية اللعبة».
إيلون ماسك، الذي ضاعف ثروته بشكل كبير إلى جانب بيتر ثيل في شركة «باي بال»، يُجسّد هذه العقلية الانفجارية. فهذا شخص ينظر إلى عجائب السماء ليلاً، ولا يرى فيها سوى فرصة لملء ذلك الفضاء الغامض بنفاياته الفضائية. وعلى الرغم من أنه بنى سمعته من خلال التحذير من مخاطر أزمة المناخ والذكاء الاصطناعي، فإنه اليوم، هو ومن يُعرفون بـ«وزارة الكفاءة الحكومية DOGE»، يقضون أيامهم في تعميق هذه المخاطر ذاتها (وغيرها الكثير) من خلال تقليص اللوائح البيئية، بل وإلغاء وكالات تنظيمية كاملة، في مسعى واضح لاستبدال موظفي الدولة بروبوتات محادثة (شات بوت).
من يحتاج إلى دولة وطنية فاعلة إذا كان الفضاء الخارجي، الذي يُقال إنه أصبح هوس ماسك الوحيد، يناديه؟ بالنسبة لماسك، أصبحت المريخ بمثابة فلك علماني، يزعم أنه مفتاح بقاء الحضارة البشرية، ربما من خلال تحميل الوعي البشري إلى ذكاء اصطناعي عام. كيم ستانلي روبنسون، مؤلف ثلاثية المريخ الخيالية التي يبدو أنها ألهمت ماسك جزئياً، كان صريحاً بشأن مخاطر هذه الأوهام التي يحملها الملياردير حول استعمار الكوكب الأحمر. يقول: «إنها مجرد مخاطرة أخلاقية تخلق وهماً بأن بإمكاننا تدمير الأرض ومع ذلك ننجو. وهذا غير صحيح على الإطلاق».
على غرار المتدينين المهووسين بنهاية العالم الذين يتوقون للهروب من العالم المادي، تنبع رغبة ماسك في جعل البشرية «متعددة الكواكب» من عجزه عن تقدير روعة كوكبنا، الذي يزخر بأشكال الحياة المتنوعة. فبدلاً من الاهتمام بثراء الأرض الطبيعي أو السعي للحفاظ على تنوعها الحيوي، يكرّس ثروته الهائلة لرسم مستقبل لا ينجو فيه سوى قلة من البشر والروبوتات على كوكبين قاحلين: الأرض المستنزفة والمريخ المعاد تشكيله. وفي التواء غريب لقصة الطوفان في العهد القديم، لا يكتفي ماسك وأقرانه من مليارديرات التقنية، الذين منحوا أنفسهم سلطات شبيهة بالآلهة، ببناء السفن الفضائية، بل يبدو أنهم يسعون أيضاً لإحداث الطوفان. فالقادة اليمينيون وحلفاؤهم الأثرياء لا يكتفون اليوم بالاستفادة من الكوارث على طريقة «عقيدة الصدمة» ورأسمالية الكوارث، بل يسهمون في افتعال تلك الأزمات والاستعداد لها في الوقت نفسه.
الفاشية في آخر الزمان هي نوع من التفاؤل السوداوي القاتل؛ ملاذ أخير لأولئك الذين يجدون أنه أسهل عليهم الاحتفال بالدمار من تخيل العيش بدون التفوق
وماذا عن قاعدة مؤيدي «ماغا»؟ فليس جميعهم مؤمنين بما يكفي لتصديق قصة «الاختطاف المقدس» بجدية، ومعظمهم بالتأكيد لا يملكون المال لشراء مكان في «مدينة الحرية»، ناهيك عن تذكرة على متن صاروخ فضائي. لا تقلق. ففاشية آخر الزمان تقدّم وعوداً بفُلك ومخابئ أكثر تواضعاً وفي متناول الجنود المخلصين من أصحاب الدخل المحدود.
استمع إلى البودكاست اليومي لستيف بانون، الذي يروّج لنفسه كأبرز منصة إعلامية لحركة «ماغا»، وستجد نفسك غارقاً في رسالة واحدة متكررة: العالم ينهار، الكفار يخترقون الحصون، والمعركة النهائية تقترب. استعدّ.
تصبح نغمة «الاستعداد ليوم القيامة» أكثر وضوحاً عندما يبدأ بانون في الترويج لمنتجات معلنيه. اشترِ ذهب «بيرش»، كما ينصح جمهوره، لأن الاقتصاد الأمريكي المثقل بالديون سينهار، ولا يمكنك الوثوق بالبنوك. خزّن وجبات جاهزة من «ماي باتريوت سبلاي». درّب نفسك على التصويب باستخدام نظام توجيه بالليزر للتدريب المنزلي. ويذكّر المستمعين: آخر ما تريده هو الاعتماد على الحكومة أثناء الكوارث (دون أن يذكر صراحة أن «وزارة الكفاءة الحكومية» بدأت في بيع الحكومة قطعةً قطعة).
لا يكتفي بانون بحثّ جمهوره على بناء ملاجئهم الخاصة، بل يروّج أيضاً لرؤية تجعل من الولايات المتحدة نفسها ملجأً محصناً، حيث يجوب عملاء إدارة الهجرة والجمارك (ICE) الشوارع وأماكن العمل والجامعات، لاختطاف كل من يُعتبر عدوًا لسياسات ومصالح الولايات المتحدة.
تشكل الدولة المحصّنة جوهر «أجندة ماغا» وجوهر فاشية آخر الزمان. ووفقاً لهذا المنطق، فإن المهمة الأولى هي تحصين الحدود الوطنية وتطهير البلاد من كل «الأعداء» سواء كانوا من الخارج أو من الداخل. وقد بدأت هذه المهمة القذرة بالفعل، حيث قامت إدارة ترامب، بدعم من المحكمة العليا، بتفعيل «قانون الأعداء الأجانب» لترحيل مئات المهاجرين الفنزويليين إلى سجن «سيكوت» الضخم سيّئ السمعة في السلفادور. هذا السجن، الذي يُحلق فيه رؤوس السجناء ويُحشر ما يصل إلى 100 شخص في زنزانة واحدة مكدسة بالأسرّة الحديدية العارية، يعمل ضمن ما يُعرف بـ«حالة الاستثناء» حيث تُفرغ الحقوق المدنية من مضمونها، وهي الحالة التي أعلنها قبل أكثر من ثلاث سنوات رئيس الوزراء نجيب بوكيلة، المحب للعملات الرقمية والمناصر للصهيونية المسيحية.
عرضَ نجيب بوكيلة توفير النظام نفسه، القائم على «الدفع مقابل الخدمة» لمواطني الولايات المتحدة، الذين ترغب الإدارة الأمريكية في إسقاطهم في حفرة قضائية مظلمة بلا قاع. وعندما سُئل ترامب مؤخراً عن هذا العرض، أجاب قائلاً: «أحب ذلك». وليس ذلك بغريب؛ فـ«سيكوت» يُمثّل النسخة المريضة، وإن كانت منطقية، من فانتازيا «مدينة الحرية»: منطقة يُباع فيها كل شيء، ولا مكان فيها للإجراءات القانونية القائمة على الواجب.
ويُتوقع أن نشهد المزيد من هذا النوع من السادية. ففي تصريح صادم بصراحته، قال مدير وكالة الهجرة والجمارك بالإنابة، تود ليونز، خلال معرض أمن الحدود لعام 2025م، إنه يتطلع إلى نهج أكثر «تجارية» في عمليات الترحيل هذه، مضيفاً: «مثل أمازون برايم، لكن مع بشر».
إذا كانت المهمة الأولى للفاشية في آخر الزمان هي تأمين حدود الأمة المحصنة، فإن المهمة الثانية، ولا تقل أهمية، هي أن تستولي الحكومة الأمريكية على أي موارد قد يحتاجها «المواطنون المحمون» لتجاوز الأوقات العصيبة المقبلة. قد تكون هذه الموارد قناة بنما، أو ممرات الشحن المتسارعة الذوبان في غرينلاند، أو المعادن الحيوية في أوكرانيا، أو المياه العذبة في كندا.
ويجب ألا نرى ذلك كإمبريالية تقليدية، بل كنسخة موسّعة من «الاستعداد لنهاية العالم»، لكن على مستوى الدولة القومية. فقد انتهى زمن أوراق التوت الاستعمارية القديمة مثل نشر الديمقراطية أو رسالة الله؛ فعندما يُلقي ترامب بنظره الطامع على خريطة العالم، فإنه ببساطة يُخزّن لما بعد انهيار الحضارة.
تُسهم عقلية «الملجأ المحصن» أيضاً في تفسير المغامرات الجدلية التي يخوضها جي دي فانس في علم اللاهوت الكاثوليكي. فالنائب الحالي للرئيس، الذي يدين بمسيرته السياسية بدرجة كبيرة إلى كرم الممول الأبرز لأنصار سيناريوهات نهاية العالم، بيتر ثيل، شرح في مقابلة مع قناة فوكس نيوز أن مفهوم «ترتيب المحبة» في اللاهوت المسيحي الوسيط، المعروف بـ Ordo Amoris (ويُترجم أحياناً إلى «نظام المحبة» أو «ترتيب الصدقة»)، يعني أن المحبة ليست واجبة لمن هم خارج الملجأ.
قال فانس: «تحب عائلتك أولاً، ثم تحب جيرانك، ثم تحب مجتمعك، ثم تحب مواطنيك في بلدك. وبعد ذلك يمكنك التركيز على بقية العالم وترتيب أولوياته». (أو ربما لا، كما توحي به سياسة إدارة ترامب الخارجية).
بعبارة أخرى، لسنا مدينين بشيء لأي أحد خارج حدود ملجئنا.
رغم أن هذا التوجه يستند إلى نزعات يمينية متجذّرة، فتبرير الإقصاء والكراهية ليس بالأمر الجديد تحت شمس الإثنو-قومية، إلا أننا ببساطة لم نواجه من قبل تياراً رؤيوياً كارثياً بهذا القدر من القوة في دوائر الحكم. فقد تم استبدال الثقة المتغطرسة بفكرة «نهاية التاريخ» التي سادت بعد الحرب الباردة بقناعة راسخة أننا نعيش فعلياً نهاية الزمان.
قد تتلحف مجموعة «دوجي» بشعار «الكفاءة الاقتصادية»، وقد يستحضر مساعدو ماسك صورة «أبناء شيكاغو» الذين تلقوا تدريبهم في الولايات المتحدة ووضعوا برنامج «العلاج بالصدمة» الاقتصادي تحت دكتاتورية بينوشيه، لكن ما نشهده اليوم ليس مجرد تكرار للتحالف القديم بين النيوليبرالية والمحافظين الجدد.
إنه مزيج جديد من عبادة المال والرؤى المهدوية، يروّج لفكرة أن علينا تحطيم البيروقراطية واستبدال البشر بروبوتات محادثة للحد من «الهدر والاحتيال وسوء الإدارة»، وأيضاً، لأن البيروقراطية هي المكان الذي تختبئ فيه «شياطين» مقاومة ترامب.
هنا يلتقي «إخوة التكنولوجيا» مع «إخوة اللاهوت (TheoBros)»؛ مجموعة حقيقية من المتدينين المسيحيين المتطرفين الذكوريين الذين تربطهم صلات ببيت هيغسث وآخرين في إدارة ترامب.
كما هو الحال دائماً مع الفاشية، يعبر «مركب القيامة» اليوم خطوط الطبقات، رابطاً بين المليارديرات وقاعدة «ماغا». بفضل عقود من الضغوط الاقتصادية المتزايدة، إلى جانب الرسائل المتواصلة والماكرة التي تزرع الفتنة بين العمال، يشعر عدد كبير من الناس بشكل مفهوم بالعجز عن حماية أنفسهم من التفكك الذي يحيط بهم (مهما خزنوا من وجبات جاهزة لعدة أشهر، لن يغنيهم ذلك عن الواقع).
لكن هناك تعويضات عاطفية متاحة: يمكنهم التصفيق لنهاية العمل الإيجابي و«التنوع والشمول والمساواة»، وتمجيد الترحيل الجماعي، والاستمتاع بحرمان الأشخاص المتحولين من الرعاية التي تؤكد جنسهم، وتجريم المعلمين والعاملين في الصحة الذين يعتقدون أنهم يعرفون أفضل منهم، والتصفيق لانهيار اللوائح الاقتصادية والبيئية كوسيلة للانتقام من الليبراليين.
الفاشية في آخر الزمان هي نوع من التفاؤل السوداوي القاتل؛ ملاذ أخير لأولئك الذين يجدون أنه أسهل عليهم الاحتفال بالدمار من تخيل العيش بدون التفوق.
إنها حلقة مفرغة من الانحدار المتواصل: هجمات ترامب الشرسة على كل هيكل مُصمم لحماية العامة من الأمراض، والأطعمة الملوثة، والكوارث – حتى تلك التي تخبر الناس عن الكوارث القادمة – تقوي الحجة لصالح التجهز الفردي على كافة الأصعدة، بينما تفتح العديد من الفرص للخصخصة والربح من قبل الأوليغارشية التي تقود هذا التفكيك السريع للدولة الاجتماعية والتنظيمية.
نعومي كلاين (Naomi Klein): كاتبة وصحفية كندية، وُلدت عام 1970، تشتهر بتحقيقاتها النقدية في قضايا العولمة والرأسمالية والكوارث المناخية. من أبرز أعمالها No Logo (1999)، وThe Shock Doctrine (2007)، وThis Changes Everything (2014). تُدرّس الإعلام والمناخ في جامعة كولومبيا.
أسترا تايلور (Astra Taylor): كاتبة ومخرجة ومنظّمة سياسية أميركية كندية. وُلدت عام 1979، وتركّز أعمالها على الفلسفة والديمقراطية والعدالة الاقتصادية. من أبرز مؤلفاتها Democracy May Not Exist (2019)، وأفلامها What Is Democracy? (2018). شاركت في تأسيس حركة Strike Debt، وتكتب بانتظام في The Guardian وThe New York Times.
المصدر: The Guardian