بين منطق «من يحرر يقرر» والرؤية التشاركية: قراءة في اتفاق الإدارة الذاتية ودمشق (1)

إذا تجاوزنا النظرة الضيقة للإدارة الذاتية ومنطق «من يحرر يقرر» بدمشق، تفتح الاتفاقية طريقاً لإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس أكثر عدالة وشمولية. فلا يقتصر دور أحمد الشرع على التمثيل الرمزي للسلطة المركزية، بل يصبح شريكاً مع قوات سوريا الديمقراطية في تحمل مسؤولية صياغة عقد اجتماعي جديد ينظم العلاقة بين الدولة والمجتمع بما يتناسب مع تعقيدات الواقع السوري المتغير.

فرهاد حمي

في ظل أجواء تتسم بالحذر والترقّب، يشارك وفد الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا في مباحثات مع ممثلي الحكومة في دمشق، لمناقشة اتفاق العاشر من آذار المبرم بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي. تعكس هذه المحادثات صراعاً واضحاً بين مشروعين متناقضين: أحدهما ينطلق من رؤية تحررية تستهدف تمكين المجتمع وتعزيز دوره، والآخر يتمسّك بنموذج الدولة المركزية ذات الطابع السلطوي والديني. وفي خضم هذا التباين، يبرز سؤال جوهري: ما هي المكاسب الممكن تحقيقها ضمن الإطار المتاح لهذا الاتفاق، وبما يتلاءم مع تعقيدات التوازنات الإقليمية والدولية المؤثرة في المشهد السوري؟

حازت الوثيقة، من حيث المبدأ، على دعم إقليمي ودولي واسع، تحت شعار «الاندماج وتوحيد البلاد» في مرحلة ما بعد انهيار نظام الأسد. هذا الموقف يعكس إقراراً ضمنياً بأن البنية السيادية السورية قد تفككت منذ سنوات، وأن الدولة، بصيغتها المركزية التقليدية، لم تعد قائمة كمؤسسة موحّدة. ورغم تمسّك دمشق، سواء في عهد بشار الأسد أو حالياً عبر أحمد الشرع، باحتكار رمزية الدولة، إلا أن غيابها كمؤسسة فاعلة وقادرة على توحيد الجغرافيا والمجتمع السوريين بات أمراً يصعب إنكاره. وبالتالي، فإن استعادة الدولة لا يمكن أن تتحقق عبر إعادة إنتاج رموزها الشكلية، بل تتطلب مشروعاً شاملاً لإعادة تأسيس مؤسساتها على أسس قانونية وسياسية جديدة، تراعي التحولات العميقة التي شهدتها البلاد.

عليه، فإن مقاربة الوثيقة لا ينبغي أن تُختزل ضمن حدود الاندماج المؤسسي أو إعادة ترتيب العلاقة بين الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية من جهة، والدولة المركزية من جهة أخرى. بل يجب النظر إليها باعتبارها إطاراً أوسع يمس جوهر الكيان السوري نفسه، ويفتح الباب أمام إعادة تعريف الدولة، لا مجرّد إصلاحها. فشمال شرق سوريا، في ظل ما تطرحه هذه الوثيقة، لا يسعى إلى الاندماج في منظومة الدولة القائمة بصيغتها التقليدية، بل يساهم في رسم ملامح دولة جديدة تنبثق من قلب الانهيار وتُبنى على أنقاض النموذج السلطوي القديم.

من هذا المنظور، لا يقتصر دور أحمد الشرع على تمثيل رمزي للسلطة المركزية، بل يتحوّل، إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية، إلى شريك في تحمّل المسؤولية التاريخية لصياغة عقد اجتماعي جديد. عقدٌ يُعيد تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس سياسية وقانونية مغايرة، وتُراعي تعقيدات الواقع السوري المتحوّل.

على نحو موازٍ، لا يمكن النظر إلى الاتفاقية بمعزل عن مواقف الفاعلين الدوليين، ذلك أن سوريا لا تزال تشكّل ساحة مفتوحة أمام التدخلات الإقليمية والدولية، الأمر الذي يجعل أي مشروع لإعادة بناء الدولة مرهوناً بتوافر شرعية مزدوجة: داخلية وخارجية. ورغم الخطاب السياسي المُعلن، الذي يوحي بمنح هامش تفاوضي للطرفين في دمشق والرقة، كما يصرّح بذلك المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم بارك، إلا أن نجاح الاتفاقية وتفعيلها عملياً سيبقى مرتهناً بقراءة دقيقة ومعمّقة للسياقين الإقليمي والدولي، باعتبارهما الإطار الحاسم في توجيه أي مسار سياسي فعّال خلال المرحلة المقبلة.

وتزداد أهمية هذه القراءة إذا ما استُحضر السياق الذي أعقب سقوط نظام الأسد، حيث أدى استيلاء هيئة تحرير الشام على السلطة، بالتزامن مع وصول إدارة دونالد ترامب إلى الحكم في واشنطن، إلى انهيار التوازنات السياسية والمؤسساتية التي كانت تضبط المشهد السوري. وقد أسفر ذلك عن حالة من اللايقين العميق، ترافقت مع تصاعد الفوضى، وارتكاب المجازر، وانتشار خطاب الكراهية، ما أربك الفاعلين المحليين والدوليين على حدّ سواء، وفتح الباب أمام تحوّلات عميقة لا تزال ترخي بظلالها على المسار السياسي الراهن.

في خضم هذا الواقع المضطرب، بدأت مواقف القوى الدولية تتبلور تدريجياً، حيث تميل الدول الغربية وبعض القوى الإقليمية المحافظة، بما في ذلك إسرائيل، إلى تبنّي مقاربة تضع الأمن والاستقرار في مقدمة أولوياتها، مع الدفع نحو إعادة توحيد سوريا تحت سلطة مركزية قوية. وفي هذا السياق، تبدو مسألة ترسيخ الاستقرار الإقليمي والدولي أكثر إلحاحاً من أي انشغال جدي ببناء دولة دستورية تقوم على المواطنة الكاملة، أو تعزيز الحقوق الأساسية للمجتمع السوري.

عقيدة الاستقرار

تعكس هذه المقاربة ما يُعرف في أدبيات السياسة الخارجية الأميركية بـ«عقيدة الاستقرار»، التي تفضّل الحفاظ على الأنظمة القائمة، حتى وإن كانت سلطوية أو قمعية، ما دامت قادرة على فرض النظام ومنع الانهيار. تستند هذه العقيدة إلى قناعة راسخة بأن تحقيق استقرار أمني طويل الأمد، حتى ولو كان ذلك على حساب التحول الديمقراطي، هو السبيل الأنجع لردع الفوضى واحتواء النزاعات المتصاعدة. وهكذا، تمثّل هذه الرؤية تحوّلاً واضحاً عن نهج الإدارات الأميركية السابقة التي راهنت على بناء دول ديمقراطية ليبرالية. ففي مواجهة ما كان يُسمى بـ«الفوضى الخلّاقة»، تقدم عقيدة الاستقرار نهجاً مغايراً يرتكز على فرض «الاستقرار القسري» تحت شعار السلام.

يتجسد هذا التوجه الجيوسياسي في شخصية أحمد الشرع، الذي وصفه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بـ«الرجل القوي والذكي»، كرمز لرؤية سلطوية تسعى إلى إعادة إنتاج مركزية صارمة، متجاهلة بذلك تطلعات قطاعات واسعة من السوريين، وعلى رأسهم قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، التي تنادي بضرورة تأسيس دولة دستورية تعترف بحق المجتمع في إدارة شؤونه ذاتياً، وتكريس مبدأ التعددية السياسية والديمقراطية المحلية.

تتبنى دول مثل بريطانيا وأمريكا وفرنسا، استنادًا إلى عقيدة الاستقرار، نهجاً يقوم على فرض الاستقرار بأي ثمن، مع مراقبة حذرة للتطورات الإقليمية المعقدة بين إسرائيل وإيران. وفي هذا الإطار، ترفض هذه الدول اعتماد نماذج فيدرالية أو أية صيغ لامركزية، بخلاف ما جرى في العراق مع إقليم كردستان، مستندة إلى عقيدة بناء الأمم.

على الرغم من أن إسرائيل تستخدم ورقة الفيدرالية في خطابها الإعلامي كأداة ضغط سياسي على دمشق، إلا أنها تبدو منفتحة على المضي قدماً في الاتفاقيات «الإبراهيمية»، والتي تتضمن تطبيعاً محتملاً بالتنسيق مع ما يُعرف بـ«سلطة الشرع»، التي تقدم نفسها كممثل شرعي للأغلبية السنيّة في سوريا. ومن هذا المنطلق، لا يُستبعد أن تتبنى إسرائيل، إلى جانب بعض العواصم الغربية، موقفًا تحفظياً تجاه أي نموذج فيدرالي أو لامركزي في سوريا، خصوصاً في حال نجاح صفقة التطبيع مع أحمد الشرع. يعكس هذا التحفظ انسجاماً مع مخاوف تركيا وعدد من الأنظمة العربية المحافظة التي ترفض أي صيغة تُهدد مركزية الدولة السورية.

ولعلّ ما يشفع نسبياً للمواقف الغربية المتهافتة تجاه أحمد الشرع، رغم خلفيته الجهادية، هو اقتران هذا الانفتاح بجملة من الشروط والمعايير التي اعتُبرت أساساً لأي علاقة مستقبلية معه. من أبرز هذه الشروط: ضمان الحكم الشامل، وحماية حقوق الأقليات والنساء، ودمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن هوية الجيش الوطني، إضافة إلى ضمان الحقوق السياسية للكرد في سوريا.

ومع ذلك، يبدو أن الشرع يسعى إلى توظيف هذا الانفتاح الدولي لمصلحته، من خلال طرح مبادرات كفرض «السيادة» أو الإعلان عن «دستور مؤقت»، والتوجّه نحو مخاطبة الإدارة الذاتية عبر أدوات تبدو قانونية وسياسية وتفاوضية من حيث الشكل، لكنها في جوهرها تهدف إلى إعادة إنتاج منظومة السيطرة التقليدية، ولكن بأسلوب جديد يرضي المخاوف الغربية من الفوضى وتنامي النفوذ الإيراني والروسي، دون أن يترافق ذلك مع التزام حقيقي بمقتضيات الإصلاح المؤسساتي أو الاندماج الوطني الديمقراطي.

في هذا السياق، يشكل الدستور والقوانين السارية العامل الحاسم في ترجمة مضامين الاتفاقية إلى واقع عملي، حيث يجب فهم الدستور كأداة تنظيمية تحدد العلاقة بين الدولة والمجتمع، مع توضيح صلاحيات الدولة ضمن إطار دستوري محكم، دون السماح بتحولها إلى كيان متضخم أو «ليفياثان» يبتلع المجال العام ويقوّض قدرة المجتمع على إدارة شؤونه بحرية. فالدولة بطبيعتها هي مؤسسة إدارية وتنسيقية تهدف إلى تنظيم العمل الجماعي، وليست سلطة شمولية مطلقة.

بيدرسون وأحادية الدستور

ومع ذلك، يلاحظ في أوساط بعض النشطاء والمنظمات غير الحكومية المتعاملين مع المبعوث الأممي غير بيدرسون، انتشار توجه قانوني يُغفل الفروق الجوهرية بين صلاحيات الدولة الدستورية وحق المجتمع في تنظيم ذاته وممارسة سيادته الاجتماعية والسياسية. هذا المنطق القانوني، الذي يغفل أهمية التوازن بين الدولة والمجتمع، يتقاطع عملياً مع الأنماط الفاشية التي تفرض نموذج الدولة المقدسة، المسيطرة على كل تفاصيل الحياة تحت شعارات «التجانس والهيمنة الشاملة».

والفارق الوحيد بين بيدرسون وفريقه وهذه الأنظمة الفاشية لا يكمن في الجوهر، بل في الأسلوب؛ فبينما تعتمد الفاشية القسر والتسلط المباشر، يلجأ بيدرسون إلى «التسويق الناعم» لنموذج الهيمنة ذاته، مستغلاً لغة القانون والمصطلحات الحقوقية لتبرير سيطرة مفرطة على المجتمع.

مع جملة هذه التحديات، لا تزال هناك مساحة للمناورة السياسية، تتيحها الاتفاقية المدعومة دولياً، بما توفره من إطار مرن للتفاوض. من اللافت أيضاً أن دعوات السيد عبد الله أوجالان إلى «السلام وبناء مجتمع ديمقراطي» تلتقي في هذه النقطة مع ما هو ممكن ومقبول دولياً في السياق السوري الحالي. لكن نجاح هذا التلاقي المحتمل مرهون بقدرة القائمين على مشروع الإدارة الذاتية على ترجمة هذه الرؤية إلى تسوية ذكية وشاملة، تستند إلى قراءة دقيقة للوقائع والمتغيرات، وتُراعي ضرورات المرحلة من دون التفريط بالثوابت الأساسية للمشروع.

انطلاقًا من هذا الفهم، يمكن النظر إلى الاتفاقية الحالية باعتبارها خطوة معقولة في ظل المعطيات السياسية الراهنة. وإذا تجاوزنا المقاربات الضيقة، كتلك التي تتبناها الإدارة الذاتية في فهم محتوى الاتفاقية، أو منطق «من يحرر يقرر» الذي لا تزال دمشق تتمسك به، فإن هذه الاتفاقية تفتح نافذة حقيقية نحو إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس أكثر عدالة وشمولاً. وفي المادة القادمة، سنسعى إلى تحليل السياق الفعلي الذي أفرز بنود هذه الاتفاقية، وما تحمله من دلالات وفرص وتحديات.

 

فرهاد حمي: كاتب وصحفي مهتم بشؤون الشرق الأوسط وسوريا. كتب في العديد من الصحف ومراكز الدراسات.

«دولة المواطنة» و«القضية الكردية» في ضوء اتفاق آذار (2)

الديمقراطية المحلية كجسر بين قسد المركز (3)