جوان حسن… جرح مفتوح

نورهات حفتارو

«كيف حالك يا بيتي… كيف حالكم يا أشجار بيتي؟»

توفي جوان حسن، الفنان والملحن والكاتب وأستاذ اللغة الكردية، إثر حريق اندلع في منزله بمدينة عامودا، وذلك في أحد مستشفيات مدينة حلب، بتاريخ 21 أيار/مايو. وُلد عام 1980 في قرية «غوردا» بمنطقة عفرين. بدأ مشواره الفني بالعزف على آلة «الطمبور» التراثية، التي تُعد رمزاً ثقافياً في المجتمعات الكردية، ثم انتقل إلى التلحين والغناء. كما درّس اللغة الكردية في عفرين من أعوام 2012 إلى 2015.

ترجمة الألم إلى الفن

كانت مأساة عفرين اللحظة المفصلية التي غيّرت مجرى حياة الفنان جوان حسن إلى الأبد. ففي 20 كانون الثاني/يناير 2018، شنّ الجيش التركي، بمساندة فصائل «الجيش الوطني السوري» المدعومة منه، هجمات مكثفة على منطقة عفرين السورية، ارتُكبت خلالها انتهاكات واسعة النطاق، شملت التطهير العرقي والتهجير القسري. في تلك الحملة، هُجّر أكثر من 300 ألف مدني من ديارهم، وقُتل الآلاف. ترك هذا الجرح العميق أثراً لا يُمحى في قلوب الكُرد عموماً، وفي نفوس أهالي المنطقة على وجه الخصوص.

كان الفنان جوان، الذي هُجّر قسراً إلى مخيمات الشهباء شمال حلب، من أولئك الذين جسّدوا هذه المأساة فناً، عبر أشعار وألحان مشبعة بالوجع، والحنين، والغضب. من بين أعماله، تبرز أغنية «عفرينا من» التي غنّاها الفنان محمد بلكو، كواحدة من أبرز تعبيراته عن الألم الجمعي.

في تاريخ شعوب منطقتنا، لا سيما الكرد، مثّل حدث «عفرين» لحظة جديدة من تراجيديا متكررة عانى منها هذا الشعب عبر محطات عدة: رحلة الهجرة والموت، لكن هذه المرّة في واحدة من أكثر صورها وحشية وكثافة. وكأنها إعادة مؤلمة لمشاهد الهولوكوست، والنكبة، والإبادة، والمجازر… كلها تجتمع في لحظة واحدة.

كان جوان من أولئك الذين هُجّروا قسراً، واضطروا لمغادرة المدينة التي احتضنت طفولته وشبابه، سائراً على قدميه فوق سفوح جبال باسوطة.

لقد توقّف الزمن بالنسبة له عند تلك اللحظة تحديداً: حين تفوح رائحة الموت، ويغدو الألم واليأس عنواناً، وتموت القوانين الدولية والإنسانية، ويصبح الوجود ذاته مهدَّداً.

تستمد أغاني جوان قوتها من جرحٍ جمعي. فالمعنى الأصلي لكلمة «الصدمة Trauma» هو «الجرح Wound»، وفي هذا السياق، فإنها تشير إلى فقدان الأرض والذاكرة. لم يسعَ جوان إلى الهروب من هذا الجرح، بل غاص فيه، محولاً الألم إلى فنٍّ يوقظ الوعي السياسي ويمنح مُهجّري عفرين بعض السلوى. تتحول أغانيه «المشرّدة» إلى وطن هش؛ ليس وطناً قائماً على الأرض، بل على الصمود والحزن المشترك.

وبمصطلحات جاك دريدا، المفكر الفرنسي المشهور، فإن الجرح ليس مجرد أثر لأذى مضى، بل هو «أثرٌ Trace» بالمعنى الفلسفي؛ شيء غائب يستمر في تشكيل الحاضر. موسيقى جوان ليست تعبيراً عن الصدمة، بل هي مبنية عليها. لا تسعى أغانيه إلى شفاء الجرح، بل إلى إبقائه مفتوحاً، ليظل الفقدان غير القابل للتمثيل، حاضراً من خلال الفن. هي شهادات على ما لا يمكن قوله بالكامل، لا تقدم عزاءً نهائياً، بل عودة متكررة عبر الإيقاع والتكرار والذاكرة.

وعبر لغة الفن الكونية، التي تتجاوز الخصوصيات والهويات الضيقة، لحّن جوان وكتب أكثر من عشرات الأغاني، تناولت في معظمها مأساة التهجير، ومشاعر الاشتياق، والعشق، والغضب.

مقاومة النسيان عبر الغضب والتمرّد

من يعرف جوان عن قرب، يعرف مقدار الألم والغضب الذي كان يتملكه. الغضب من غياب العدالة الإلهية، ومن «الآلهة العراة» في زمن موت الحقيقة. الغضب من الفقر، والهجرة، والموت. هذه الروح الحرة ولّدت لديه تمرداً على كل القواعد والقوانين. تمرد على الأيديولوجيا والعنف، عبر الفن.

في بيئة مشبعة بالعنف والمجازر، وفي ظل اليأس المطلق وغياب العقل والوجدان، جسّد جوان «روح الأمل» من خلال الغضب والتمرد. عبر رفض الواقع القائم، والتمرّد عليه، والدعوة إلى إعادة تشكيله.

وفي اشتياقه لقريته، غنّى جوان عن جمالها وأنهارها، مشكّلاً ذاكرة حية في أغنية «Têye Bîra Min»  «أتذكّر»، بادئاً الأغنية بتذكره «بئر قريته وروائح الورود»، مقاوماً النسيان والإنكار عبر فعل «التذكر». وكأنه يقول: يجب أن نتذكر، ألا ننسى… فالنسيان خيانة.

بالنسبة له، كان الغناء عن عفرين، عن جمالها وطبيعتها، فعلاً مقاوماً في وجه النسيان. ومن خلال هذا الفعل، استطاع أن يعيد لنا ذاكرتنا الجمعية، ويدعونا للتحرك، للمقاومة.

وهذا بالضبط، ما نفتقده اليوم، في عصر «الترندات» و«العوالم الافتراضية»، وعصر الإنجازات «الإيجابية» التي تشوّه الحقيقة، من خلال عرض ذاتها على أنها الحقيقة المطلقة. من خلال ترجمة الألم، والحنين، والغضب، والتمرّد إلى كلمات وألحان، استطاع الفنان جوان حسن أن يعيد الاعتبار للحقيقة المؤلمة، ويمنحها صوتاً للتعبير.

رحيل جوان مأساة عميقة، ليست خسارة فنانٍ محبوب فحسب، بل تعميقٌ للجرح الجمعي لعفرين. وفاته تضيف ملحاً إلى جرحٍ كان مفتوحاً أصلاً، ينزف بالغربة والحنين. ومع ذلك، فإن هذا الجرح بعينه هو ما أنجب فنَّ جوان. موسيقاه، شعره، صوته، لم تكن يوماً منفصلة عن ألم شعبه، بل تشكّلت به، ووسمَها بطابعه، وحملت ذاكرته.

لم يكن جوان يغني عن عفرين فقط؛ بل كان يغني من جرح عفرين. كانت ألحانه منسوجة من خيوط الفقدان، والمقاومة، والجمال الهشّ الذي يبقى رغم الخراب. بهذا المعنى، فإن فنّ جوان ليس مجرد نتاج للصدمة، بل هو امتداد لها، تجسيد لها، وتحويلها إلى شيء يمكن مشاركته، الإحساس به، وتذكّره.

رغم أن جوان رحل، فإن الجرح باقٍ، ومعه صوته. تواصل أغانيه صداها في قلوب المُهجّرين، والذين في حداد، والمقاومين، والحالمين. لقد أصبح حضوراً طيفياً، لا يطاردنا، بل يرافقنا. في كل لحنٍ يتذكّر أشجار عفرين، في كل كلمةٍ تتوق إلى العودة، يعيش جوان.

وكما قد يقترح دريدا، فإن الموت لا يمحو الحضور، بل يعيد تشكيله. يصبح الفنان أثراً، والأثر لا يزول. بل يبقى، يكتب، ويذكّر. موت جوان لم يُسْكته؛ بل وضع صوته في عمق الجرح ذاته، حيث يواصل الغناء، لا ليُغلق الجرح، بل ليضمن ألّا ننساه أبداً.

أصبح جوان رمزاً للألم والمقاومة في ذاكرة المجتمعات الكردية في «روج آفا».

رحل جوان، وبقي الألم. يجب أن نُكمِل طريقه، عبر تحقيق أهدافه في العودة بكرامة إلى عفرين وسري كانيه، وبناء سلامٍ مشرف يليق بذكراه وتضحياته.

وداعاً جوان…

 

نورهات حفتارو: كاتب يهتم بالقضايا السياسية والعلاقات الدولية في الشرق الأوسط وسوريا.