سلافوي جيجك
الماضي هو أيضاً ما لم يحدث، ما جرى سحقه حتى يتسنى لـ«ما حدث فعلياً» أن يحدث.
ما الذي أفعله أنا، الفيلسوف، في هذا المكان، حيث سيناقش المتخصصون خصائص الجاذبية الكمومية؛ وهي موضوعات تتجاوز بكثير حدود معرفتي وفهمي؟ منذ نشأتها الأولى، كان واضحاً أن لميكانيكا الكم (QM) تداعيات عميقة وزلزالية على تصورنا للواقع. ومع ذلك، وعلى الرغم من بعض التأملات والنقاشات المتفرقة هنا وهناك، ظل الموقف السائد حتى وقت قريب هو أرثوذكسية كوبنهاغن، التي يمكن تلخيصها في الشعار الشهير: «لا تفكر، فقط احسب!» لكن في العقود الأخيرة، شهدت الأسئلة الأنطولوجية انفجاراً حقيقياً. ففي مستهل كتابه ذائع الصيت التصميم العظيم، أعلن ستيفن هوكينغ بانتصار أن «الفلسفة قد ماتت». ومع التقدمات الأخيرة في فيزياء الكم وعلم الكونيات، بلغت ما يُعرف بـ«الميتافيزيقا التجريبية» ذروتها؛ إذ أصبحت الأسئلة الميتافيزيقية المتعلقة بأصل الكون، وطبيعة الزمان والمكان، وغيرها، وهي التي كانت حتى وقت قريب حكراً على التأمل الفلسفي، قابلة الآن للطرح ضمن إطار العلم التجريبي، بل وقابلة للاختبار التجريبي، ولو على المدى الطويل.
غير أن الأمور أعقد من ذلك بكثير. فقد بدأ العديد من علماء الكم يدركون أن عليهم التطرق إلى أسئلة فلسفية جوهرية. مثلاً: ما طبيعة الموجات الكمومية؟ هل تشكّل هذه الموجات واقعاً مستقلاً عن واقعنا المادي المألوف، أم أنها مجرد أدوات رياضية للحساب والتنبؤ؟
وأنا أتابع هذه النقاشات بصفتي مراقباً خارجياً، لاحظت أن عدداً من فيزيائيي الكم قد لجأوا إلى نوع من الروحانية الغامضة أو إلى المثالية الذاتية المباشرة. وإليك مثالاً شائعاً على مثل هذه النزعة: «هل تعكس هذه المفارقات فعلاً رؤى الفلسفات القديمة مثل أدفايتا فيدانتا Advaita Vedanta، التي تقول إن الانفصال وهمٌ وأن كل الأشياء مترابطة؟ إن التشابك الكمومي يكشف الجسيمات يمكن أن تظل مترابطة عبر مسافات شاسعة، كما لو كانت جزءاً من كيان واحد لا يتجزأ». حتى روجر بنروز كتب في وقت ما: «بطريقة ما، وعينا هو السبب في وجود الكون». أما أنطون زيلينغر، فقد ذهب إلى حدّ الربط بين ميكانيكا الكم والبوذية التبتية. ومن ثم، ليس من المستغرب أن ينضم إلى هذا المسعى عدد من الفلاسفة التعتيميين؛ فبالنسبة لهم، يُعدّ الانهيار الكمومي فعلاً إرادياً نابعاً من وعي حرّ.
كان جاك لاكان يدرك تماماً ما يقول عندما أعلن أن ميكانيكا الكم هي أول علم يتعامل مع «الواقعي»؛ الواقعي بوصفه متميزاً عن الواقع المُشكّل رمزياً. فجوهر ميكانيكا الكم يكمن في الإقرار بوجود مستوى آخر من الكينونة، يخضع لقوانين تختلف جذرياً عن تلك التي تنظّم واقعنا اليومي المألوف: الواقعي الذي يتعلق بالموجات الكمومية، وبالتراكبات الكمومية التي تنهار لتنتج واقعنا الظاهري. هذا المستوى يتميز بعدم الحتمية، ومع ذلك يظل محكوماً بالحتمية؛ إذ تُحدّد احتمالية الانهيار الكمومي بدقة شديدة عبر معادلة شرودنغر. وعلى هذا المستوى من الوجود الكمومي، ينبغي أيضاً التخلي عن تصوراتنا التقليدية للزمان والمكان باعتبارهما وعاءين شاملين يحتويان كل ما هو موجود.
إن تفسير المجال الكمومي بوصفه دحضاً نهائياً للمادية وإثباتاً على أن الواقع ذو طبيعة روحانية لا ينجح إلا إذا بقينا مقيّدين بالفهم الكلاسيكي الحتمي للواقع؛ أي تصور الواقع على أنه مكوَّن من جسيمات مادية صغيرة تتحرك داخل فضاء وزمن شاملين ومطلقين. لكن دور «الرصد» في ميكانيكا الكم أكثر تعقيداً بكثير مما يُفترض عادة؛ فالتجارب تثبت أن الانهيار الكمومي يحدث بمجرد أن تُرصد العملية الكمومية من قِبل جهاز قياس، حتى في غياب تام لأي وعي أو إدراك بشري.
إن من يزعمون أنه لا وجود لواقع خارج الوعي يرفضون، بوصفه مجرد «مشكلة زائفة»، أكثر الجوانب إثارة للاهتمام الفلسفي في ميكانيكا الكم: الطبيعة الأنطولوجية الدقيقة للموجات الكمومية، وآلية انهيارها، والسببية الارتجاعية التي تنطوي عليها هذه الظواهر. ولهذا، أنتم، يا علماء الكم، بحاجة إلى الفلسفة بالفعل، لكن ينبغي الحذر من الفلاسفة الذين يوظفون أعمالكم في خدمة مشاريع تغيبية أو غامضة الطابع.
وهنا يدخل على الخط أشخاص مثل لي سمولن، وكل الدائرة المحيطة به، من فرانشيسكا فيدوتو وكارلو روفيلي إلى جوليان باربور وشون كارول. هؤلاء، مثلي، ما زالوا ماديين، لكنهم يدركون تماماً أن مفهوم المادية ذاته يجب أن يُعاد التفكير فيه جذرياً في ضوء ما تكشفه ميكانيكا الكم. فما الذي تعنيه «المادية» في هذا السياق؟ لا تعني أن الواقع النهائي هو فراغ شاسع تطفو فيه جزيئات مادية صغيرة، بل تشير إلى شيء أكثر إثارة وتعقيداً. إن حتمية آينشتاين الكاملة تستند إلى أساس ديني عميق، فقد كتب: «Raffiniert ist der Herrgott, aber boshaft ist er nicht» (الله بارع، لكنه لا يتعمد خداعنا). ورغم أن آينشتاين أكد مراراً أنه لا يؤمن بإله شخصي، فقد وصف نفسه بأنه عميق التدين: «أنا أؤمن بإله سبينوزا، الذي يتجلى في تناغم كل ما هو موجود». بهذا المعنى، كان الدين والعلم في نظره متلازمين بالضرورة؛ فالعلم ذاته يستند إلى إيمان عميق بأن الكون منظم بانسجام مدهش يخترق الوجود كله.
أما في رأيي، فإن ميكانيكا الكم قد وجّهت ضربة قاتلة لهذا الإيمان بالتناغم الكوني. فهي توحي بعالم غير متّسق، تعددي، وغير مؤسس على أي قاعدة كبرى، حتى وإن كانت تلك القاعدة هي «العدم» ذاته.
سلافوي جيجيك: فيلسوف وناقد ثقافي سلوفيني وُلد عام 1949م، اشتهر بدمجه الفلسفة الهيغيلية والماركسية مع التحليل النفسي لفهم الإيديولوجيا والثقافة. برز عالمياً بعد صدور كتابه «الموضوع السامي للإيديولوجيا» عام 1989م، ويُعرف بأسلوبه الاستفزازي واستخدامه الثقافة الشعبية لشرح أفكار معقدة. يعمل باحثاً في جامعة ليوبليانا ويُعد من أبرز المفكرين المعاصرين.
المصدر: slavoj.substack