جهاد حمي
يُعدّ احتكار أجهزة العنف المشروع، كالجيش والشرطة والأمن، داخل نطاق جغرافي محدد، أحد الركائز الجوهرية التي تقوم عليها الدولة القومية الحديثة، كما صاغها عالم الاجتماع ماكس فيبر. غير أنّ هذا التعريف الأساسي للدولة تعرّض لاهتزاز عميق في الحالة السورية عقب اندلاع الانتفاضة الشعبية عام 2011م. فقد شكّلت موجة الاحتجاجات العارمة ضد نظام بشار الأسد الاستبدادي نقطة تحوّل مفصلية، أدّت إلى تآكل سيطرة الدولة المركزية، وانزلقت البلاد نحو واحدة من أكثر الحروب الأهلية تعقيداً وتشظّياً في التاريخ المعاصر.
استمات نظام الأسد في محاولاته للإبقاء على قبضته الحديدية في سبيل الحفاظ السلطة، مستعيناً بالعنف المفرط ودعم حلفاء إقليميين ودوليين، إلا أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل في استعادة احتكار أدوات العنف، كما حدده ماكس فيبر كجوهر للدولة الحديثة. ومع انقسام البلاد إلى مناطق نفوذ تسيطر عليها فصائل مسلّحة متناحرة، انهارت السيادة المركزية، وتهاوى معها النموذج التقليدي للدولة القومية الذي تقوم شرعيته على سلطة مركزية تحتكر العنف بشكل مشروع.
منذ عام 2012م، دمرت العسكرة، عبر الميليشيات المتعددة واستخدام الدولة المفرط للعنف، النسيج الاجتماعي السوري بكل جوانبه. وفي مرحلة ما بعد الأسد، يتعين تجنب تكرار هذا المسار الكارثي. وفقاً لماكس فيبر، يكمن التمايز الجوهري بين الدولة الحديثة ونموذج «الطغيان الديكتاتوري» في نقطة محورية، وهي أن احتكار الدولة للعنف لا يكون مشروعاً إلا إذا تأسست الدولة على أسس عقلانية، واستمدت شرعيتها من الشعب عبر آليات ديمقراطية. أما إذا كانت أسس الدولة مبنية على العنف القسري، كما هو الحال في سوريا الآن، فإن ذلك سيؤدي إلى تدمير الحياة السياسية، وبالتالي إلى إعادة إنتاج نسخة جديدة من نظام الأسد، قد تكون أشد قمعاً وبشاعة في بعض أوجهها.
سعت هيئة تحرير الشام إلى إضفاء الشرعية على نفسه عبر سردية تعسفية مفادها: «من ينتصر، يقرّر، وبالتالي يحكم». بمعنى أنهم ادّعوا النصر على نظام الأسد، ومن ثم نصّبوا أنفسهم حكاماً. وهي أقرب إلى الهيمنة الأداتية ممزوجة بالنزعات القبائلية الدينية، مشوّهة بفكرة القائد الكاريزمي. فالحكم هنا لا يُمارس من خلال الشرعية، بل عبر الاعتراف الاستراتيجي والقوة القسرية
الهيمنة والعنف المركزي
بعد انهيار نظام الأسد، سعت الحكومة المؤقتة، التي تهيمن عليها هيئة تحرير الشام ويترأسها أحمد شرع، إلى تثبيت سلطتها على الأراضي السورية. وكانت إحدى أولى وأهم مهامها هي استعادة الطابع التقليدي للدولة القومية، لكن هذه الاستعادة لم تكن مجرد محاولة للعودة إلى النموذج الكلاسيكي للدولة، بل عبر نموذج الطغيان التقليدي الذي تجسد في شخصية الشرع والزمرة الجهادية المحيطة به. لو كان فيبر مراقباً لهذا الحدث، لَما تردد في وصف ما يحدث على أنه نموذج «قبيلة الجهادية السنية الإسلامية»، حيث يسعى هذا النموذج إلى فرض احتكار العنف عبر هيمنة شخصية واحدة وتحكم قسري يشبه الأنماط التقليدية للسلطة، بعيداً عن التصور الحداثي للعقلانية الديمقراطية. بذلك، يتم استبدال شرعية الدولة بنظام يتسم بالطغيان الذي يزعم مشروعيته عبر ادعاءات دينية.
لم تمضِ سوى أسابيع قليلة على سقوط نظام الأسد حتى بادر أحمد الشرع بالإعلان عن دمج جميع الفصائل العسكرية في مؤسسة واحدة تحت إشراف وزارة الدفاع للجيش السوري الجديد. كانت هذه الخطوة تهدف إلى توحيد القوى العسكرية وتنظيمها ضمن إطار مؤسساتي، مما يعيد هيكلة السلطة المركزية التي اعتُبرت ضرورة للحفاظ على النظام والاستقرار في مرحلة ما بعد الأسد. بالنسبة للحكومة المؤقتة، كان استعادة الوظيفة التقليدية للدولة، أي احتكارها الحصري لاستخدام العنف المشروع، بمثابة الركيزة الأساسية لفرض سلطتها وكسب شرعيتها، خاصة في ظل تشرذم البلاد وتنافس الفصائل المتعددة.
كما تم الإشارة أعلاه، فإن احتفاظ الدولة باحتكار العنف لا يُمكن أن يتم إلا إذا كانت تُعتبر شرعية. وتُعد هذه المعضلة في جوهرها واحدة من الإشكاليات الأساسية التي شهدتها سوريا منذ نشأتها. لم يكن احتكار العنف في سوريا يوماً مرتبطاً بقرارات جماعية عامة، بل كان رهيناً للزمرة العسكرية التي فرضت نفسها عبر آلية الانقلابات العسكرية المستترة. ولم تختلف الصورة كثيراً في مرحلة ما بعد الأسد، رغم أن أحمد الشرع جاء من خلفية جهادية بعيدة عن الزمرة العسكرية التقليدية. إذ سعى مع هيئة تحرير الشام إلى إضفاء الشرعية على نفسه عبر سردية تعسفية مفادها: «من ينتصر، يقرّر، وبالتالي يحكم». بمعنى أنهم ادّعوا النصر على نظام الأسد، ومن ثم نصّبوا أنفسهم حكاماً. وقد عززت هذه السردية جهات إقليمية ودولية، التي سعت إلى تحقيق الاستقرار في سوريا بعد تراجع الأسد، فقاموا بالاعتراف بالسلطة المؤقتة ومنحها الشرعية عبر الانخراط الدبلوماسي معها وإرسال وفود رسمية.
إلا أنّ هذه الشرعية المفروضة من الخارج لا تتماشى مع التصنيفات التقليدية للسلطة لدى ماكس فيبر سواء كانت قانونية-عقلانية أم لا. فهي أقرب إلى الهيمنة الأداتية ممزوجة بالنزعات القبائلية الدينية، مشوّهة بفكرة القائد الكاريزمي. فالحكم هنا لا يُمارس من خلال الشرعية، بل عبر الاعتراف الاستراتيجي والقوة القسرية. فسلطة الحكومة المؤقتة لا تنبع من عمليات ديمقراطية أو من إرادة شعبية، إذ أن العقلانية التي يتحدث عنها فيبر تتعلق بالحوار الجماعي حول القيم والغايات التي تجمع المصالح العليا. وهذا يختلف تماماً عن النزعة الأداتية التي تلجأ إليها الدول الغربية، حيث تُفرض القرارات بشكل قسري من قبل قوى إقليمية ودولية. وقد تجلّى ذلك بوضوح أثناء صياغة الدستور وتشكيل الحكومة المؤقتة، إذ لم تكن العملية شاملة ولا ديمقراطية، وفشلت في عكس التنوع العرقي والديني للمجتمع السوري. هنا تجتمع العقلانية الأداتية «التقنية والتكنوقراطية» مع التقاليد الاستبدادية الشعبوية الجهادية، مدفوعة بعقلية قبائلية إنغلاقية وأسطورية دينية.
إنّ تورّط هيئة تحرير الشام في المجازر وأعمال العنف المنهجي ضد المجتمعات العلوية يمكن النظر إليه أيضًا في سياق سعيها لاحتكار العنف. فقد تم تبرير هذه الأفعال من قبل الهيئة وفصائل مشابهة تحت مسمى «العدالة الثورية» أو «الانتقام من فلول نظام الأسد»، إلا أنها في الواقع ساهمت في تقويض شرعية ادعاء الهيئة للسيادة
لامركزية وترويض العنف
تبنّى أحمد الشرع نهجاً براغماتياً، منخرطاً في مفاوضات مع فاعلين رئيسيين في المشهد السوري المتشظي. فعلى سبيل المثال، يُعدّ اتفاقه مع مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، خطوة كبيرة نحو استيعاب مؤسسات الإدارة الذاتية، العسكرية والمدنية، ضمن هيكل الدولة. وهذا لا يقلل فقط من عدد الفاعلين المسلحين المستقلين، بل يوسّع أيضاً من نطاق نفوذ الدولة الإداري والأمني ليشمل الشمال الشرقي، وهي منطقة تتمتع بدرجة عالية من الاستقلال الذاتي. وبالمثل، فإن المحادثات مع ممثلين الدروز في السويداء، والمساعي لدمج قواتهم الذاتية، ضمن الجيش السوري الجديد، تُظهر نية الشرع في توحيد الجهاز العسكري السوري تحت قيادة مركزية. وحتى في المناطق التي شهدت اضطرابات مؤخراً، مثل بصرى الشام، تمثلت الاستجابة في نشر قوى أمنية رسمية بدلاً من ترك الأمور بيد المجموعات المسلحة المحلية. وتشير هذه الخطوات مجتمعة إلى جهد منظّم ومتعمد لتمركز أدوات العنف ضمن مؤسسات الدولة الرسمية، وبالتالي فرض شرعية النظام الجديد على كامل الأراضي السورية.
إنّ تورّط هيئة تحرير الشام في المجازر وأعمال العنف المنهجي ضد المجتمعات العلوية يمكن النظر إليه أيضًا في سياق سعيها لاحتكار العنف. فقد تم تبرير هذه الأفعال من قبل الهيئة وفصائل مشابهة تحت مسمى «العدالة الثورية» أو «الانتقام من فلول نظام الأسد»، إلا أنها في الواقع ساهمت في تقويض شرعية ادعاء الهيئة للسيادة. كما كانت هذه الأعمال بمثابة رسالة تهديد موجهة إلى الفاعلين المسلحين الذين لم ينضموا إلى الحكومة المؤقتة، مفادها أنهم سيواجهون المصير نفسه ما لم يخضعوا لاحتكار العنف الذي تسعى الحكومة المؤقتة لفرضه. وفي ظل هذا الواقع، قد يؤدي تمكن الحكومة المؤقتة من احتكار العنف إلى تكرار مجازر مماثلة لتلك التي وقعت في المناطق الساحلية، ولكن على نطاق أوسع يشمل كافة الأراضي السورية.
الحدّ من «اللوياثان» – أجهزة العنف الشمولية في الدولة القومية وفقًا لهوبز – في إطار الحكومة المؤقتة لا يكمن في إطلاق العنان لقوته الكاملة، ولا في منح احتكار العنف بشكل مطلق. فالتجربة التاريخية، وخاصة ما شهدته سوريا في العصر الحديث، أثبتت أن تركيز كامل السيطرة على العنف في يد سلطة مركزية لا يؤدي إلى السلام أو العدالة، بل غالباً ما يعزز القمع والاستبداد، ويقود إلى إرهاب الدولة. لذا، فإنه من الضروري بعد سقوط نظام الأسد أن يُحارب النظام السياسي الجديد فكرة إعادة إنتاج الهياكل المركزية ذاتها التي سمحت لرجل واحد بالتحكم في مصير ملايين البشر من خلال قوة غير خاضعة للمساءلة.
أمام هذا التحدي، ينبغي على قوات سوريا الديمقراطية «قسد» أن تَسعى لجعل اللامركزية مبدأ غير قابل للتفاوض في أي تسوية مستقبلية لسوريا. فاللامركزية ليست تهديداً لوحدة البلاد، بل هي الأساس الحقيقي للاستقرار والشرعية. فهي تعني أن احتكار العنف يجب أن يُوزع ويُقيّد، ليكون متجذراً في مؤسسات ديمقراطية محلية، بدلاً من أن يُحتكر من قبل سلطة مركزية بعيدة.
أما البديل لذلك، فهو ببساطة ولادة «لوياثان» جديد، ربما تحت اسم مختلف، لكنه سيظل يستخدم الأدوات القمعية نفسها. اليوم، تدافع قوات سوريا الديمقراطية من خلال تمسكها بنظام لامركزي عن رؤية لسوريا يكون فيها الحكم خاضعاً للمساءلة، وتُمنح المجتمعات المحلية الحق في اتخاذ قراراتها بشأن أمنها وحكمها الذاتي. هذا ليس مجرد مطلب سياسي، بل ضرورة تاريخية، ناتجة عن دروس قاسية تعلمتها البلاد من ويلات الحرب والديكتاتورية.
جهاد حمي: كاتب مقيم في ألمانيا. يدرس الأدب الإنكليزي والأمريكي في جامعة هامبورغ. تم نشر كتاب له باللغة الإنكليزية مؤخراً بعنوان“ROJAVA IN FOCUS: CRITICAL DIALOUGES“ بالاشتراك مع البروفيسور توماس جيفري مايلي.