تجنيس المقاتلين الأجانب في سوريا: خطر ديموغرافي وأمني

مصطفى عبدي

تواجه سوريا اليوم، تحولات خطيرة تهدد بنية الدولة الوطنية ومفهوم المواطنة، وذلك في ضوء ما كشفته تصريحات رسمية وتقارير إعلامية، عن نية الحكومة المؤقتة بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) منح الجنسية السورية لمقاتلين أجانب قاتلوا ضمن صفوف «هيئة تحرير الشام» خلال الحرب الأهلية السورية.

وقد سلط وثائقي بثّته مؤخراً قناة «Arte» الفرنسية ـ الألمانية بعنوان «الحاكم الجديد لسوريا» الضوء على هذا المشروع، في ظل تصاعد القلق من أن العقيدة المؤسسة للجهاز الأمني الجديد تقوم على منظومة فكرية دينية لا تولي «الانتماء الوطني» أهمية مركزية، بل تنطلق من رؤية أيديولوجية تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية للدولة ومؤسساتها.

وفي مداخلة مثيرة للجدل ضمن الوثائقي، أكد «علي كدة»، وزير الداخلية السابق في حكومة تصريف الأعمال، والذي يوصف بأنه الصندوق الأسود وبنك أسرار «الجولاني»، أن المقاتلين الأجانب الذين شاركوا في «تحرير سوريا»، حسب تعبيره، سيكون لهم وضع قانوني خاص، ومن المرجح أن يُمنحوا الجنسية السورية بموجب قانون تجنيس جديد. وقد برّر كدة هذه الخطوة بالإشارة إلى «المعايير الدولية» التي تسمح بمنح الجنسية لمن يقيم في البلد أكثر من خمس سنوات، متجاهلاً أن هذه المعايير تنطبق على اللاجئين والمهاجرين لأسباب إنسانية او سياسية وليس للقتال وانها تستثني بوضوح المتورطين في جرائم الحرب.

يبدو أن القيادة الجديدة بصدد إنتاج «هوية وطنية بديلة»، تستند إلى الولاء الأيديولوجي لا إلى العقد الاجتماعي أو الانتماء الجغرافي. وهذا التحول ينذر بمخاطر جمّة على الأمن الوطني، وعلى إمكانية بناء دولة جامعة قائمة على المواطنة المتساوية

وتشير تقارير إلى أن عدداً من هؤلاء الأجانب ارتكبوا بالفعل انتهاكات جسيمة بحق المدنيين في مناطق الساحل السوري ودمشق، استهدفت العلويين والدروز، إذ كانوا رأس حربة تلك الهجمات، ووُثقت مشاركتهم في مجازر وعمليات تطهير طائفي. وتكمن الخطورة أيضاً في أن بعض هؤلاء القادة مصنفون ضمن لوائح الإرهاب الأمريكية والأوروبية، ويمتلكون سجلات جنائية وملاحقات قضائية في بلدانهم الأصلية.

وكانت السلطات الجديدة في دمشق قد أصدرت قراراً بترفيع رتب عدد من القادة الأجانب داخل «هيئة تحرير الشام»، ومنحهم مواقع قيادية ضمن البنية التنظيمية للدولة. وتضم القائمة شخصيات من ألبانيا وتركيا ومصر وتركستان الشرقية وطاجيكستان والأردن، من بينهم عبدل بشاري، عمر جفتشي، علاء عبد الباقي، ومولان ترسون، إضافة إلى عبد الله الداغستاني المعروف بلقب «ذو القرنين»، قائد ما يسمى «جيش المهاجرين والأنصار».

وتخالف هذه الخطوة بشكل واضح الشروط التي وضعتها واشنطن والاتحاد الأوروبي لتخفيف العقوبات المفروضة على دمشق، والتي من أبرزها عدم إشراك مقاتلين أجانب في أي مناصب حكومية أو أمنية، وعدم منحهم غطاءً قانونياً للبقاء داخل سوريا.

وتشكّل هذه الخطوة، مشروعاً لإعادة تشكيل التركيبة الديموغرافية والرمزية للدولة السورية. إذ يبدو أن القيادة الجديدة بصدد إنتاج «هوية وطنية بديلة»، تستند إلى الولاء الأيديولوجي لا إلى العقد الاجتماعي أو الانتماء الجغرافي. وهذا التحول ينذر بمخاطر جمّة على الأمن الوطني، وعلى إمكانية بناء دولة جامعة قائمة على المواطنة المتساوية.

الخلفية القانونية لمفهوم الجنسية

قانونياً، تُعد الجنسية من الركائز الأساسية في بناء الدولة الحديثة، كونها تمثل الرابط القانوني والسياسي بين الفرد والدولة. وتخضع عملية منح الجنسية عادة لقواعد صارمة تستند إلى المعايير الدولية، أبرزها اتفاقية تقليل حالات انعدام الجنسية لعام 1961، واتفاقية جنيف 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، إضافة إلى التشريعات الوطنية للدول. ويُشترط في أغلب دساتير العالم أن لا تُمنح الجنسية لأفراد شاركوا في أنشطة إرهابية، أو النزاعات المسلحة القائمة على أيديولوجيات عابرة للحدود.

النموذج السوري الناشئ: انتهاك لمفهوم الدولة القُطرية

في الحالة السورية، يبرز توجّه «هيئة تحرير الشام» بقيادة أحمد الشرع نحو منح الجنسية للمقاتلين الأجانب كتطوّر خطير في تاريخ البلاد. فبينما حافظت الحكومات السورية المتعاقبة، حتى خلال فترات الصراع، على نموذج «الدولة القُطرية» ذات السيادة الحدودية الواضحة، فإن النموذج الجديد يتّجه نحو طمس هذه الحدود، وتكريس هوية بديلة ذات طابع أممي ـ جهادي تنفي الصيغة الوطنية التقليدية.

ويُعدّ هذا التوجّه انتهاكاً صريحاً لمبدأ السيادة، إذ يضع سوريا في موقع الدولة القابلة للاختراق السكاني والسياسي من قبل مجموعات غير منضبطة، لا تملك التزامات قانونية ولا ترتبط بمرجعية دولية معترف بها.

يتخوف المجتمع الدولي، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من أن يؤدي تثبيت وضع قانوني دائم للمقاتلين الأجانب في سوريا إلى جعل البلاد قاعدة خلفية للتنظيمات الجهادية العابرة للقارات، خاصة مع وجود شخصيات مصنفة إرهابية تم إدماجها في قيادة الأجهزة الأمنية والعسكرية

البُعد الديموغرافي: هل نحن أمام هندسة سكانية؟

وبناء على ما سبق، تطرح عملية تجنيس المقاتلين الأجانب إشكالية كبرى من زاوية إعادة تشكيل البنية السكانية لسوريا. فهؤلاء الأفراد ليسوا لاجئين تقليديين ولا مهاجرين شرعيين، بل يمثلون شريحة ذات طابع عسكري وأيديولوجي، دخلت البلاد ضمن إطار مشروع عابر للحدود.

وتُظهر دراسات سكانية أن إدخال عناصر سكانية جديدة غير مندمجة ثقافياً أو اجتماعياً يؤدي غالباً إلى اضطرابات طويلة الأمد، ويعيق مشاريع المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية. والأسوأ من ذلك، أن هذه الشريحة قد تتحوّل إلى كتلة أمنية ضاغطة على المجتمع المحلي، ما يُكرّس منطق الدولة البوليسية أو المليشاوية.

ويتخوف المجتمع الدولي، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من أن يؤدي تثبيت وضع قانوني دائم للمقاتلين الأجانب في سوريا إلى جعل البلاد قاعدة خلفية للتنظيمات الجهادية العابرة للقارات، خاصة مع وجود شخصيات مصنفة إرهابية تم إدماجها في قيادة الأجهزة الأمنية والعسكرية. لذا فإن واشنطن طالبت بإبعاد هؤلاء كأحد الشروط لرفع العقوبات. وبالتالي، فإن سياسة التجنيس هذه قد تؤدي إلى ترسيخ نموذج الدولة-الملاذ، والتي كانت أحد أسباب الكوارث الأمنية في دول مثل أفغانستان والصومال.

الحالة الأفغانية: دولة ملاذ للجهاد

وفي التسعينيات، وبعد انسحاب السوفييت، استقطبت أفغانستان مقاتلين أجانب شاركوا في صفوف المجاهدين. ومع سقوط حكومة نجيب الله عام 1992، منحت طالبان بعضهم الإقامة والجنسية، معتبرة إياهم جزءًا من المشروع الجهادي. أدى ذلك إلى تحوّل البلاد إلى ملاذ للجماعات المتطرفة، مثل القاعدة، ما تسبب في عزلة دولية وتدخل عسكري بعد هجمات 11 سبتمبر 2001.

الحالة البوسنية: اندماج قلق ونتائج مزدوجة

أما خلال الحرب البوسنية (1992–1995)، انضم مقاتلون عرب، عُرفوا بـ«المجاهدين البوسنيين»، إلى القوات المسلمة ضد الصرب والكروات. وبعد الحرب، مُنح بعضهم الجنسية تكريماً لمشاركتهم. لاحقاً، تعرضت الحكومة لضغوط دولية لسحب هذه الجنسيات بسبب تورط بعضهم في أنشطة متطرفة، ما ساهم في تفاقم الانقسامات الداخلية وصعوبات في ترسيخ سلطة مركزية مستقرة.

يشكّل تجنيس المقاتلين الأجانب عائقاً أمام أي جهود دبلوماسية لإحلال السلام، ويقوّض فرص الوصول إلى تسوية سياسية شاملة أو انتقال ديمقراطي حقيقي

سوريا أمام مفترق طرق

إن دروس أفغانستان والبوسنة تشير إلى أن منح الجنسيات لأجانب على أساس القتال أو الانتماء العقائدي ليس فقط إجراءً محفوفاً بالمخاطر، بل يُنتج تبعات استراتيجية تتجاوز حدود الدولة، منها:

تشويه مفهوم المواطنة وتحويله إلى ولاء وظيفي أو عسكري.

تهديد الأمن القومي والدولي عبر احتضان أفراد غير قابلين للمراقبة القانونية.

إضعاف تماسك المجتمع المحلي بإدخال عناصر لا تمتلك قواسم ثقافية أو تاريخية مع البيئة المستقبِلة.

صعوبة التراجع لاحقاً عن هذه السياسات دون تكلفة سياسية وأمنية باهظة.

سيؤدي هذا التوجه إلى استمرار العقوبات الدولية وتعميق عزلة الحكومة الانتقالية المؤقتة، خاصة مع تجاهل دمشق لشروط الدول الغربية، مثل انسحاب المقاتلين الأجانب وعدم تعيينهم في مناصب حساسة. كما يشكّل تجنيس هؤلاء المقاتلين عائقاً أمام أي جهود دبلوماسية لإحلال السلام، ويقوّض فرص الوصول إلى تسوية سياسية شاملة أو انتقال ديمقراطي حقيقي.

مصطفى عبدي: كاتب وصحفي سوري، أسّس عدة مواقع إعلامية، وعمل على توثيق الانتهاكات خلال سنوات الحرب في سوريا.