هل يصمد السلام بين الكرد والترك بعد التصعيد الأخير في سوريا؟

نورهات حفتارو

في 26 أبريل، عُقد «كونفرانس وحدة الموقف والصف الكردي» في مدينة قامشلو شمال سوريا، بمشاركة قيادة قسد وأحزاب كردية من سوريا وأجزاء كردستان الأخرى، برعاية فرنسية وأمريكية. اختُتم المؤتمر ببيان ختامي ومسودة مبادئ تضمنت رؤى حول «لامركزية الدولة»، و«توحيد المناطق الكردية ضمن سوريا اتحادية»، و«اعتماد النظام البرلماني»، و«حياد الدولة تجاه الأديان».

وصرحت الدفاع التركية، أن «أي دعوات لإنشاء مناطق حكم ذاتي مرفوضة بشكل قاطع»، بالتزامن مع شنّ أربع غارات بطائرات مسيّرة استهدفت مواقع لـ«قسد» في منطقتي سد تشرين وجسر قراقوزاق. كما وصف زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، المؤتمر بـ«الاستفزازي»، واعتبر اللامركزية «تهديداً لوحدة سوريا»، مشيراً إلى أن اتفاق 10 مارس بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي «انتهك بضغط خارجي».

وسط هذا التصعيد: هل يمكن للسلام أن يصمد كخيار ثالث؟

هل تنسجم مسودة المبادئ التي خرج بها كونفرانس الوحدة الكردية مع الواقع السياسي المتغيّر؟ هل يمكن للمشهد السوري المعقّد، والمثقل بالتجاذبات الإقليمية والدولية، أن يسمح بتطبيق نموذج اتحادي؟ هل تسهم هذه المبادئ في عودة مهجّري عفرين وسري كانيه إلى ديارهم؟ ولماذا غابت الإشارة إلى السلام مع تركيا في الوثيقة؟ ولماذا لم يتم تبنّي اتفاق عبدي–الشرع؟

كونفرانس وسط رمال متحركة

لطالما شكّلت الوحدة الوطنية حلماً راسخاً في الذاكرة الجماعية الكردية، خاصة في مواجهة الهيمنة الخارجية. وقد تجسّد هذا الطموح في التراث الثقافي، لا سيما في الأغاني الفلكلورية مثل «درويش عفدي»، حيث تظهر لحظات اتّحاد الكرد من خلفيات دينية وقبائلية متنوعة، مسلمين وعلويين وإيزيديين، بعد تجاوز صراعات داخلية طويلة، للوقوف صفاً واحداً أمام التهديدات الخارجية.

في السياق المعاصر، أصبحت وحدة الموقف الكردي بين الأحزاب هدفاً رئيسياً للقوى السياسية الكردية. وقد تحقّق ذلك جزئياً في سوريا عبر مبادرات متعددة، كان أبرزها تلك التي قادها مظلوم عبدي، قائد «قسد»، والتي حظيت لاحقاً بدعم دولي، خاصة من فرنسا والولايات المتحدة، بالإضافة إلى دعم إقليمي من إقليم كردستان العراق. كما ساهم نداء «السلام والمجتمع الديمقراطي»، الذي أطلقه السيد أوجالان في 27 فبراير الماضي، في خلق مناخ إيجابي مهّد لعقد «كونفرانس الوحدة الكردية» في مدينة قامشلو بتاريخ 26 نيسان.

غير أن هذا المؤتمر انعقد في سياق سوري معقّد ومضطرب، وسط تنافس تركي–إسرائيلي على النفوذ، وضغوط أمريكية على سلطات دمشق، وبيئة مليئة بالمجازر، وخطاب كراهية غير مسبوق، إضافة إلى الاتفاقيات بين دمشق وقسد، وبين قسد وتركيا.

رغم الرمزية العالية التي حملها هذا الكونفرانس، فإنه خرج بوثيقة مبادئ مفصّلة وفجائية وغير واضحة من حيث التطبيق. فقد دعت إلى توحيد المناطق الكردية سياسياً وإدارياً ضمن إطار «سوريا اتحادية»، دون تقديم شرح عملي لهذا المفهوم. كما تجاهلت الوثيقة التحولات السياسية الحاصلة على الأرض، وأصرت على مفاهيم مثل «الاتحادية»، رغم أن هذا المطلب لم يرد في اتفاق 10 مارس بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي.

إضافة إلى ذلك، لا تظهر تركيا، ولا دول الاتحاد الأوروبي أو بريطانيا، دعماً واضحاً لأي نموذج فيدرالي في سوريا، مما يطرح تساؤلات حول جدوى هذا الطرح ومدى واقعيته في المرحلة الراهنة.

ورغم احتواء الوثيقة على مبادئ مهمة تتعلق بالحل السياسي، فإنها لم تصل إلى صيغة شاملة يمكن أن تحظى بقبول وطني واسع. كما أنها لم تحظَ بأي دعم دولي أو إقليمي معلن، على عكس اتفاق عبدي–الشرع، الذي نال تغطية ومتابعة دولية. ورغم ما أشيع عن رعاية أمريكية وفرنسية للكونفرانس، لم يصدر أي تصريح رسمي من مؤسسات البلدين، ما يثير علامات استفهام عديدة.

بعد انتهاء الكونفرانس، بدأت تتضح تناقضات في التصريحات والمواقف. على سبيل المثال، صرّح محمد إسماعيل، القيادي في المجلس الوطني الكردي، في مقابلة مع قناة «ولات تيفي»، أن «المجلس غير معني باتفاق قسد مع دمشق»، وهو ما أثار حالة من الغموض والارتباك في أوساط الرأي العام.

في ضوء كل ما سبق، تُطرح مجموعة من الأسئلة المحورية: هل تنسجم مسودة المبادئ التي خرج بها الكونفرانس مع الواقع السياسي المتغيّر؟ هل يمكن للمشهد السوري المعقّد، والمثقل بالتجاذبات الإقليمية والدولية، أن يسمح بتطبيق نموذج اتحادي؟ هل ما زالت الأحزاب الكردية أسيرة الأيديولوجيا القومية؟ أليس الكرد من أكثر الشعوب تضرراً من الدولة القومية ومشتقاتها؟ هل تسهم هذه المبادئ في عودة مهجّري عفرين وسري كانيه إلى ديارهم؟ ولماذا غابت الإشارة إلى السلام مع تركيا في الوثيقة؟ ولماذا لم يتم تبنّي اتفاق عبدي–الشرع؟

استناداً إلى هذه التحديات، تبدو الحاجة ملحّة إلى تبنّي سياسات غير متهورة، يمكن وصفها بـ«العقلانية الحذرة» وفق ما يمكن تسميته بـ«البراغماتية المبدئية»، أي التكيّف مع المستجدات العملية دون التفريط بالمبادئ الأساسية.

وفي هذا السياق، يُعد نموذج «الدولة الدستورية + المجتمع الديمقراطي ذاتي الإدارة» أحد الخيارات المعقولة، لتبنيها كمشروع سياسي لشمال وشرق سوريا، وسوريا عامة، بما يحقق التوازن بين الديمقراطية المحلية، ومتطلبات الشراكة الوطنية، والضمانات الإقليمية والدولية لأي حل دائم ومستقر في البلاد.

لا طريق ثالث أمام تركيا: إما السلام والديمقراطية، أو القبول بسوريا مقسّمة ومضطربة، سيمتد نارها إلى الداخل التركي

الموقف التركي

وفي سياق متصل، صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن «الحديث عن البُنى الفيدرالية مجرد وهم لا مكان له في واقع سوريا»، في إشارة واضحة إلى رفض بلاده لأي طروحات فيدرالية أو لامركزية داخل الجغرافيا السورية. وتعكس هذه التصريحات السياسة التركية، التي تسعى إلى فرض نموذج الدولة القومية المركزية، عبر دمج مجموعات جهادية موالية لها في بنية الحكم المركزي في دمشق، وتكريس هذا النموذج على حساب التنوع السوري. وكانت مجازر التطهير الطائفي في مناطق الساحل السوري إحدى النتائج الكارثية لهذه السياسات.

ورغم الخطاب الرسمي التركي الذي يتحدث عن «سلام دائم وتاريخي قائم على أُخوّة ألف عام»، فإن الشكوك لا تزال قائمة بشأن مدى التزام أنقرة بهذه الرؤية على أرض الواقع. فعلى الرغم من تبنّي عملية السلام الكردية-التركية داخل تركيا، لا تزال الصراعات داخل أجهزة الدولة التركية، إلى جانب التدخلات الإقليمية والدولية، تشكّل عائقاً حقيقياً أمام إحراز أي تقدّم ملموس في مسار السلام.

ومن منطلق العقلانية، فإن تبنّي أنقرة لموقف أقل حدّة تجاه المطالب الكردية، ودعمها لوحدة الصف الكردي ضمن سوريا، قد يكون خطوة فعالة نحو ترسيخ بيئة سلمية. فلو أرادت تركيا فعلاً الحفاظ على وحدة سوريا وجعلها ضمن مجال نفوذها الإقليمي، فإن السبيل الأمثل هو دعم السلام والديمقراطية، بدلاً من تغذية الانقسامات والتوجهات الإقصائية.

باختصار، لا طريق ثالث أمام تركيا: إما السلام والديمقراطية، أو القبول بسوريا مقسّمة ومضطربة، سيمتد نارها إلى الداخل التركي.

تُسهم السياسات الإقصائية والمركزية المفرطة، القائمة على اللون الواحد ورفض التعددية، في خدمة الأجندة الإسرائيلية الهادفة إلى تفتيت سوريا والمنطقة. سواء عن وعي أو دون وعي، تساهم سياسات سلطات دمشق، ومن خلفها تركيا، في نقل المياه إلى طاحونة إسرائيل

تطابق مواقف دمشق وأنقرة

ووصفت سلطات دمشق «الكونفرانس الكردي» وما أسمته «مطالبات قسد بالفيدرالية» بأنها تهديد لوحدة وسلامة البلاد. تتماشى هذه التصريحات بشكل واضح مع الخطاب التركي، الذي يرفض أي صيغة اتحادية في سوريا. وبالرغم من الدعم البريطاني–التركي، والموجه بشكل مباشر أو غير مباشر لسلطات دمشق، تعاني «هيئة تحرير الشام» من مأزق عميق في كيفية إدارة الدولة والمجتمع السوري المتنوع.

لقد كشفت مجازر الساحل، والهجمات الطائفية غير المبررة على الدروز، عن فشل النظام الجديد في تشكيل إدارة تمثل جميع السوريين. كما أن الإصرار على مقاربة ملف شمال وشرق سوريا من زاوية الأمن القومي التركي، يُظهر ضيق أفق سياسي. فمن غير العقلاني أن تتعامل سلطات دمشق مع هذه المناطق بذات النظرة التي تتبناها أنقرة، خاصة في ظل وجود فرصة للاستفادة من تجربة «الإدارة الذاتية» المتنوعة، وقوات سوريا الديمقراطية، في قيادة المرحلة الانتقالية.

لكن، يبدو أن سلطات دمشق لا تزال متمسكة بمنهج «احتكار السلطة» وفرض السيطرة عبر العنف، من خلال نموذج سلطوي يمكن تسميته بـ«التكنوقراطية الأصولية»؛ وهي بنية حكم تقوم على العقل الأداتي الأحادي، وتقصي العمل السياسي كممارسة جماعية تُعنى بحلّ قضايا الناس والمجتمعات.

تُسهم السياسات الإقصائية والمركزية المفرطة، القائمة على اللون الواحد ورفض التعددية، في خدمة الأجندة الإسرائيلية الهادفة إلى تفتيت سوريا والمنطقة. ورغم ما يبدو من تنافس بين تركيا وإسرائيل على النفوذ، فإن سياساتهما تُعمّق من خطوط الانقسام. ويبدو أن هذا التنافس يسير نحو تقاسم منضبط للنفوذ، قائم على خطوط واضحة لفضّ الاشتباك. وبهذا، سواء عن وعي أو دون وعي، تساهم سياسات سلطات دمشق، ومن خلفها تركيا، في نقل المياه إلى طاحونة إسرائيل.

السلام ليس خياراً سياسياً فحسب، بل خياراً تاريخياً لا خاسر فيه

تقف سوريا اليوم وسط صراع مشاريع إقليمية ودولية. وفي ظل انهيار القانون الدولي في الشرق الأوسط، فإن الإبادات الجماعية والحروب الأهلية مازالت على الأجندة. وما جرى في الساحل السوري، إلى جانب الهجمات الطائفية على مناطق الدوز في دمشق، يعبر عن هشاشة الوضع الحالي.

في هذا السياق المعقد، تبرز أهمية تبنّي قادة شمال وشرق سوريا لسياسات عقلانية، تقوم على النأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية، واعتماد خطاب وطني ديمقراطي يدعو إلى السلام والتعايش، ويؤمن بالعقل المشترك في وطن مشترك.

على الجانب الآخر، لا تزال قطاعات واسعة داخل الدولة التركية متمسكة بسياسات الإنكار والإقصاء واحتكار السلطة. وإذا لم تمضِ تركيا في عملية السلام مع الكُرد، داخل حدودها وخارجها، ولم تُطلق مساراً لإصلاح جذري في مؤسساتها، ولم تُعِد النظر في سياساتها تجاه سوريا، فإنها ستظل رهينة للابتزاز إقليمي، ومكبّلة بأزماتها الداخلية. وذلك في ظل مؤشرات اقتصادية تُنذر باقتراب البلاد من حافة الانهيار.

وعليه، فإن السلام ليس خياراً سياسياً فحسب، بل خياراً تاريخياً لا خاسر فيه. المنطقة بأسرها، من سوريا إلى تركيا، بأمسّ الحاجة إلى السلام. وإلا، فإن الاستمرار في سياسات التهميش والإقصاء والأحادية قد يقود الجميع نحو صراع سياسي ومجتمعي شامل، يصعب الخروج منه لعقود طويلة.

 

نورهات حفتارو: كاتب يهتم بالقضايا السياسية والعلاقات الدولية في الشرق الأوسط وسوريا.