مصطفى عبدي
وسط الفوضى المستمرة التي تعصف بسوريا منذ أكثر من عقد، يتكشّف وجه آخر للصراع لا يقل خطورة عن الحرب والسلاح؛ إنه وجه التفكك المجتمعي، حيث تحلّ الشائعات محلّ الحقائق، وتتحول «الفزعات» العشائرية إلى ذريعة للعنف المنظّم، وتُستباح دماء المدنيين بناءً على انتماءاتهم الهوياتية.
الهجوم الأخير على المجتمع الدرزي في الجنوب السوري، والذي جاء على خلفية مقطع صوتي مسرّب/مفبرك عبر تطبيق «واتساب»، يجسّد هذا الانحدار المقلق. فالتسجيل – الذي لم يتم التحقق من صحته أو مصدره – أشعل موجة تحريض ممنهجة على منصات التواصل الاجتماعي، تبعتها تهديدات بالإبادة ودعوات لما سُمّي بـ«الجهاد» الطائفي. لم يكن الأمر مجرّد رد فعل غاضب، بل هجوم منظّم خلّف ضحايا وزرع بذور فتنة قد تمتد آثارها لعقود قادمة.
يزيد الصراع الإقليمي والدولي المحتدم على الجغرافيا السورية، من تفكك البلاد ويعمّق حالة الانهيار. وهكذا، يموت السوريون، بكل تنوّعهم، على مذبح المصالح الإقليمية والدولية
بالإضافة إلى ما سبق، تتواصل «مجازر التطهير الطائفي» التي تطال المجتمع العلوي، إذ تُسجّل يومياً حالات خطف وقتل، في مشهد يكشف أن العنف لم يعد موجّهاً ضد النظام أو المعارضة فقط، بل بات يستهدف المجتمع السوري نفسه بكل مكوناته.
الخطير في الأمر ليس الحدث بحد ذاته، بل في القبول الضمني به، بل وتبريره أحياناً. فعندما يتحول الخطاب الطائفي إلى سلوك جماعي، وحين تُستهدف طائفة بأكملها بسبب هويتها، نكون أمام أزمة أخلاقية عميقة تسبق في جوهرها البُعد السياسي.
إن ما نشهده اليوم هو انحدار خطير نحو العنف الأهلي، حيث تصبح الهوية، لا الجريمة، هي التهمة، ويُستبدل القانون بولاءات طائفية، وتُلغى المحاسبة لصالح منطق الانتقام.
يُضاف إلى ذلك الصراع الإقليمي والدولي المحتدم على الجغرافيا السورية، والذي يزيد من تفكك البلاد ويعمّق حالة الانهيار. وهكذا، يموت السوريون، بكل تنوّعهم، على مذبح المصالح الإقليمية والدولية!
المقلق في هذا السياق هو عجز سلطات دمشق عن إدارة التنوّع السوري، وعجزها عن إعادة بناء الدولة. فكل سياساتها الإقصائية، القائمة على احتكار السلطة والهيمنة الأحادية، لا تؤدي إلا إلى مزيد من التصعيد والتفكك.
وفي هذا الإطار، تشكّل الهجمات الطائفية غير المبررة على أبناء الطائفة الدرزية دليلاً واضحاً على فشل «هيئة تحرير الشام» في إدارة البلاد.
وعليه، فنحن لا نواجه أحداثاً معزولة، بل أمام امتداد لمخطط أيديولوجي يسعى إلى فرض مشروع إسلاموي أصولي (لا علاقة له بالإسلام كدين وثقافة اجتماعية)، من خلال ضرب التنوع المجتمعي واستهداف كل طائفة أو دين أو قومية لا تتماشى مع هذا المشروع أو ترفض الخضوع له.
سوريا اليوم لا تحتاج إلى مزيد من الجبهات والانقسامات، بل إلى مساحات مشتركة للّقاء، وإلى عقد اجتماعي جديد يُعيد تعريف الانتماء إلى الوطن السوري، وطنٍ يضع الإنسان في مركز الكرامة والحماية، فوق كل اعتبار
إنّ مخاطر هذا المسار جسيمة، خاصة في ظل الصمت المريب للمجتمع الدولي، وهو صمت يقرؤه أحمد الشرع وحاشيته كضوء أخضر لمواصلة ارتكاب الجرائم والانتهاكات. وإذا لم يتحرك العالم سريعاً، فإنّ سوريا تسير بخطى ثابتة نحو فوضى شاملة وانهيار تام، ستكون له تداعيات خطيرة لا تقف عند حدودها الجغرافية، بل تهدد الأمن والسلم في المنطقة بأسرها.
إن الواجب الأخلاقي والسياسي يُملي على المجتمع الدولي، إن كان جاداً في احترام مبادئه ومؤسساته، أن يتدخل عبر مجلس الأمن، ويشدّد العقوبات، ويعمل على عزل أحمد الشرع وشركائه سياسياً ودبلوماسياً. كما ينبغي تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة تنظر في الحملات التي استهدفت وتستهدف الطائفة العلوية والدروز وسائر مكونات الشعب السوري.
والمفارقة أن هذا التدهور لا يشكّل تهديداً مباشراً للسلم الأهلي فحسب، بل يمهّد فعلياً لتقسيم سوريا إلى كانتونات طائفية ومناطقية متنازعة، تتحوّل كل منها إلى مشروع دولة فاشلة.
من هنا، فإن الخروج من هذا النفق المظلم لا يمكن أن يتحقق إلا بإحياء العقل الجماعي، وترسيخ مؤسسات العدالة، والتمسك بحوار وطني شامل. فسوريا اليوم لا تحتاج إلى مزيد من الجبهات والانقسامات، بل إلى مساحات مشتركة للّقاء، وإلى عقد اجتماعي جديد يُعيد تعريف الانتماء إلى الوطن السوري، وطنٍ يضع الإنسان في مركز الكرامة والحماية، فوق كل اعتبار.
وأختم بمقولة نيلسون مانديلا، أيقونة السلام:
«السلام لا يعني غياب الصراع، بل القدرة على مواجهته بوسائل سلمية».
مصطفى عبدي: كاتب وصحفي سوري، أسّس عدة مواقع إعلامية، وعمل على توثيق الانتهاكات خلال سنوات الحرب في سوريا.