جهاد حمي
الكتابة عن سِرِّي سُريّا أوندر بعد رحيله ليست مهمة سهلة؛ فكيف يمكن تلخيص حياة رجل عاش كأنها مسرح إبداعي، وأدى أدواراً متعددة كمخرج وممثل محترف، وكرمز سياسي ترك بصمته العميقة على مسرح الحياة؟
عرفه البعض كمخرج وممثل، أنجز أفلاماً متجذّرة في الواقعية الاجتماعية وسينما العالم الثالث. تناولت أعماله قضايا سياسية جوهرية مثل الظلم، وإرهاب الدولة، والاستعمار، مسلطاً الضوء على معاناة الفئات المهمشة. ومن خلال فنه، تحدّى البُنى القمعية للسلطة وطرح رؤية لمستقبل تُشكّله المبادئ الاشتراكية الديمقراطية، مستخدماً السينما كمنصة للحوار النقدي والتغيير الثوري.
في زمن بدت فيه السياسة جامدة، منفصلة، وخالية من أي تعبير إبداعي، استخدم أوندر الفكاهة كسلاح يواجه به الواقع ويكشف تناقضاته. كانت براعته في التهكّم والسخرية لا تجعل القضايا السياسية المعقدة أكثر قرباً وفهماً فحسب، بل كانت تكشف أيضاً سخافة الأنظمة القائمة وعبثها
رآه آخرون ممثلاً لبقايا التيار التحرري والأممي في اليسار التركي، ذلك التيار الذي تم سحقه بوحشية خلال الاضطرابات السياسية في سبعينيات القرن الماضي. كانت تسكنه روح شخصيات ثورية سابقة مثل ماهير تشايان، ودنيز غزميش، وإبراهيم كايباكّايا، أولئك الذين ناضلوا بشراسة من أجل مبادئ الاشتراكية والعدالة والحرية في مجتمع تمزّقه الانقسامات الطبقية والقمع السياسي. وعلى الرغم من القمع العنيف الذي تعرضت له تلك الحركات، فقد حمل أوندر إرثها بكل إخلاص، مجسداً التزاماً بالنضال الطبقي، والتغيير الاجتماعي والديمقراطي، والإيمان بأن التحرر الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التضامن والكفاح الجماعي.
أعجب به الكثيرون لأنه أدخل روح الفكاهة والسخرية إلى ساحة سياسية جُرِّدت طويلاً من عمقها الفني، حيث أصبحت الخطابات السياسية خاضعة للغة بيروقراطية ولهجة مفرطة في «الجدية». في زمن بدت فيه السياسة جامدة، منفصلة، وخالية من أي تعبير إبداعي، استخدم الفكاهة كسلاح يواجه به الواقع ويكشف تناقضاته. كانت براعته في التهكّم والسخرية لا تجعل القضايا السياسية المعقدة أكثر قرباً وفهماً فحسب، بل كانت تكشف أيضاً سخافة الأنظمة القائمة وعبثها.
لم يعد أوندر بيننا الآن، ونتحدث عنه بصيغة الماضي. لقد أصبح جزءاً من التاريخ، وجزءاً من الذاكرة، ذاكرة حاضرة، وذاكرة من أجل مستقبل شعوب الأناضول وبلاد ما بين النهرين. إنه روح حيّة وملموسة للأخوّة التركية – الكردية
ومن خلال ضخّ حسّ فني في العمل السياسي، ذكّر الناس بأن النضال السياسي لا يتمحور فقط حول السياسات والسلطة، بل يدور أيضاً حول التجربة الإنسانية، والخيال، والقدرة على الضحك في وجه المحن. وكفنان وعاشق للفن، رفض أن يترك السياسة تتحوّل إلى مجرد أداة أو لعبة سلطة. بل تعامل معها كمجال إبداعي عميق؛ فضاء يتسع للخيال الجمالي والاحتمالات، لا وسيلة مفرغة من الروح.
بالنسبة للعديد من الكرد، كان أوندر تركمانياً ديمقراطياً لم يكتفِ بالتعاطف مع النضال الكردي، بل وقف متضامناً معه فعلياً، مدافعاً عن حقوقهم ومُعلياً أصواتهم في السياسة التركية. لقد تجاوز التزامه حدود الكلمات، حيث تجلّى في أفعاله وجهوده من أجل إحداث تغيير حقيقي. ويتذكره آخرون كنائب في البرلمان عن حزب الشعوب الديمقراطي وحزب المساواة وديمقراطية الشعوب (HDP/DEM)، حيث ناضل من أجل الحقوق الديمقراطية والكونية للجميع، متجاوزاً الانقسامات العرقية والسياسية. كان نصيراً للفئات المهمشة، ساعياً لتحقيق المساواة والعدالة والحرية للجميع. كما لعب دوراً رئيسياً في عملية السلام بين عامي 2013 و2015، داعياً إلى الحوار والمصالحة لحل القضية الكردية. ومؤخراً، ساهم في تجديد محادثات السلام في أكتوبر 2024، حاملاً الأمل بإحياء النضال من أجل السلام والعدالة رغم الانقسامات السياسية العميقة.
كل هذه الجوانب حقيقية في شخصية أوندر. ومع ذلك، فإن أوندر يُجسّد اليوم شيئاً يتجاوز مجموع هذه الأدوار. فالموت يُحوّل الإنسان من الحاضر إلى الماضي، إلى التاريخ والذاكرة. لم يعد أوندر بيننا الآن، ونتحدث عنه بصيغة الماضي. لقد أصبح جزءاً من التاريخ، وجزءاً من الذاكرة، ذاكرة حاضرة، وذاكرة من أجل مستقبل شعوب الأناضول وبلاد ما بين النهرين. إنه روح حيّة وملموسة للأخوّة التركية – الكردية.
كسر أوندر سردية الدولة القومية، من خلال حياته، وإبداعه، وتجسيده لتاريخ طويل من التحرر والتضامن بين المجتمعات. رفض الرؤية الأحادية الإقصائية التي فرضتها الدولة القومية، وسلك بدلاً منها طريقاً يحتضن التنوع، والاحترام المتبادل، والتمكين الجماعي. إن أوندر يمثل روحًا حقيقية، استثناءً في وجه التأريخ الإرهابي للدولة القومية
بصفته تركمانياً، يُعدّ أوندر الوريث الحقيقي لإرث بابا إسحاق التحرري و المجتمعي، الزعيم الروحي لحركة البابائية غير الأرثوذكسية، التي مزجت بين المعتقدات الشيعية والعلوية والتقاليد الشعبية. وقد قاد بابا إسحاق واحدة من أكبر الانتفاضات الشعبية في الأناضول قبل العهد العثماني ضد سلطنة سلاجقة الروم في عام 1241م، بدافع مقاومة السلطة المركزية، والضرائب الباهظة، والاضطهاد الديني للجماعات غير الأرثوذكسية. في يوم جنازته، رُفع صورته وقد كُتب عليها: «بابا إسحاق خالد».
إنها مهمة شاقة أن نحفر في أعماق التاريخ البعيد لنُعيد اكتشاف قرون من التضامن المتبادل بين شعوب مختلفة في العِرق والدين، وسط سردية الدولة القومية. لقد دمّرت سردية الدولة القومية وأرشيفاتها الذاكرة الجماعية للتعايش، لذاكرة شعوب كانت تعيش معًا بحرية وسلام. إن تأريخ الدولة القومية يقوم على المجازر والإبادات الجماعية التي ارتُكبت باسم إنشاء أمة واحدة وهوية مغلقة. وهي تنظر إلى التاريخ بطريقة انتقائية، أسطورية، ومُصطنعة، تصوغ «مجتمعاً متخيلاً» لا يمتّ بصلة حقيقية إلى النسيج المتنوع للأمم والشعوب. إن حدود الدولة القومية، سواء كانت مادية أم ذهنية، تمنعنا من رؤية ما يتجاوز هوية واحدة ثابتة.
ولكن إن كان التاريخ هو الحاضر أيضاً، فإن السؤال يصبح: كيف يمكننا أن نعيش اليوم مع مجتمعات مختلفة عرقياً ودينياً في ظل مجتمع تهيمن عليه الطغيان وهيمنة هوية واحدة؟ في الواقع، إن الخروج من قيود الدولة القومية لإحياء التقاليد التحررية والتعددية للشعوب التي تتجاوز سرديات الدولة ليس مهمة سهلة. ففي نظر الدولة القومية، ما هو خارج تاريخها ببساطة لا وجود له.
لا يمكننا العودة بسهولة إلى لحظات مثل معركة جالديران، أو مرج دابق، أو حتى جناق قلعة (غاليبولي) لنتذكّر كيف قاتل الكرد والترك جنباً إلى جنب ذات يوم. لقد شوّهت الدولة القومية ذاكرتنا، وأنتجت نوعاً من فقدان الذاكرة يمنعنا من التذكّر ومن العيش بطريقة تفاعلية ومترابطة. من الصعب للغاية شفاء ما تم تشكيله ووسمه بالعنف.
ومع ذلك، فقد كسر أوندر سردية الدولة القومية، من خلال حياته، وإبداعه، وتجسيده لتاريخ طويل من التحرر والتضامن بين المجتمعات. رفض الرؤية الأحادية الإقصائية التي فرضتها الدولة القومية، وسلك بدلاً منها طريقاً يحتضن التنوع، والاحترام المتبادل، والتمكين الجماعي. إن أوندر يمثل روحًا حقيقية، استثناءً في وجه التأريخ الإرهابي للدولة القومية. وفي زمن كثيراً ما أُعيد فيه كتابة التاريخ لتبرير العنف والانقسام، يظلّ أوندر شاهداً حياً على قوة الوحدة والنضال المشترك. إنه الشكل الملموس لمقاومة طويلة: روح التعايش والنضال المستمر من أجل حياة حرّة وديمقراطية.
تشكل حياة أوندر وعمله رمزاً قوياً لتاريخ بديل. تاريخ يقاوم قوى القمع القومي ويحتفي بإمكانية الانسجام بين الشعوب المختلفة. إنه ذاكرة حية ومبدعة لأمة ديمقراطية، تقف في مواجهة «المجتمع المتخيل» الذي تصوّره الدولة القومية
تشكل حياة أوندر وعمله رمزاً قوياً لتاريخ بديل. تاريخ يقاوم قوى القمع القومي ويحتفي بإمكانية الانسجام بين الشعوب المختلفة. إنه ذاكرة حية ومبدعة لأمة ديمقراطية، تقف في مواجهة «المجتمع المتخيل» الذي تصوّره الدولة القومية. إن إرثه يتحدى السرديات الضيقة والمصطنعة للهوية والانتماء التي شكّلت الخطاب السياسي الحديث، ويقدّم بدلًا منها رؤية لمستقبل قائم على التضامن والعدالة والإنسانية المشتركة للجميع. إن الأمة الديمقراطية، التي طوّرها السيد أوجلان، تمثل بديلاً للدولة القومية. وغالباً ما بدت هذه الفكرة مجردة لأنها لم تُطبّق بالكامل بعد. ولكن إذا سُئلنا كيف قد يبدو شكل الأمة الديمقراطية، يمكننا أن نقدّم إجابة بسيطة: أوندر.
في ظل فقدان الخيال، أي فقدان القدرة على التفكير في إمكانية وجود عالم مختلف، تحت هيمنة الإقطاع التقني والدولة القومية، يُدفع بنا إلى الاعتقاد بأنه لا يوجد بديل. لكن يجب علينا اليوم أن نقول: هناك طريق آخر للحياة، ديمقراطي وسلمي، كان موجوداً دائماً، ولا يزال قائماً حتى اليوم. وإذا لم تتمكن من تذكّر ذاكرة التعايش الديمقراطي من قرون مضت، وبالتالي لا تستطيع أن تتخيل كيف يمكن أن يبدو السلام الديمقراطي، فانظر إلى أوندر. إنه الذاكرة الحية لتلك الإمكانية. وأنا أستخدم الزمن الحاضر عن قصد، لأنه روح المجتمع الديمقراطي والسلام في عصرنا، ذاك الذي يمكن أن يكون. فروحه تُجسّد قوةً ذات أهمية بالغة في دفع قضية السلام قُدُماً، وفي تعزيز رؤية ديمقراطية قائمة على التضامن والأخوّة بين شعوب تركيا.
بصفتنا كُرداً، يجب ألا نضع أوندر في الفئة المألوفة لـ«الشخص الديمقراطي الآخر» من جماعة إثنية مختلفة يُظهر فقط تضامناً مع قضيتنا. فهذا المنظور مشبع بخطاب قومي، يقوم على تمييزات جامدة بين «نحن» و«الآخر». لقد كسر أوندر هذا الإطار، وجسّد روحاً ديمقراطية وأممية وكونية، «نحن الآخر، والآخر نحن». لقد رأى نضاله إلى جانب رفاقه الكُرد ليس كفعل تضامن فحسب، بل كجزء من نضاله الشخصي من أجل الحرية والديمقراطية. في هذا السياق، يمكن فهم عبارته المتكررة: «أنا كردي حتى تُحلّ المسألة الكردية». لقد كان يعرّف نفسه من خلال أولئك الذين يُنكر وجودهم، ويُهمّشون، ويُستبعدون من البُنى السياسية. هذا التماهي مع المظلومين يجسّد الجوهر الحقيقي لفكرة الكونية، أي الاعتراف بالمساواة مع أولئك الذين يُقمع صوتهم أو يُتجاهلون. وتعكس مواقفه منطق «اللا-كلي (not-all)»، حيث لا تقوم الكونية على الامتثال أو التماثل، بل على احتضان ودمج الذين لا يجدون مكاناً في النظام القائم.
في المسرح الأدبي العميق للسياسة، حين تُفهم السياسة كفن تشكيل الحياة، برز كتاب وعمل مسرحي بعنوان «بناء حياة حرّة». لم تكن شخصياته خيالية، بل كانت أعضاء حقيقيين من حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، من بينهم أوندر، وبيرفين بولدان، وصلاح الدين دميرطاش، وآخرون، الذين أدوا أدوارهم في الوساطة بين أوجلان والدولة التركية خلال مفاوضات السلام بين عامي 2013 و2015. سعى هذا العمل إلى التقاط روح السياسة الشفافة والتحويلية في سعيها نحو السلام. وفي هذا السياق، قال أوجلان ذات مرة لأوندر إنه سيكتب النص، وسيكون أوندر هو المخرج. قال أوجلان ممازحاً: «سنعمل على الفيلم معاً، وسنفوز بالأوسكار».
لم يُكتب لهذا المشروع أن يكتمل، ولم يفز أوندر بجائزة الأوسكار. لكنه فاز بما هو أثمن بكثير: لقد ساهم في صياغة خيال جديد، خيال للسلام، ولإمكانية أن نعيش حياة حرّة معاً. وهل هناك جائزة أعظم من ذلك في زمن يحتضر فيه الخيال نفسه، ويغدو فيه حتى مجرد التجرؤ على التخيل أمراً نادراً؟
في أحد اللقاءات، سأل أوندر أوجلان: «كيف يجب أن أناديك؟» فأجابه أوجلان: «نادِني يَولداش Yoldaş».
«يَولداش» تعني حرفياً «رفيق الدرب»، لكنها تُستخدم سياسياً في الأوساط اليسارية والاشتراكية والثورية للإشارة إلى الرفاق، أولئك المشاركين في نضال مشترك من أجل قضية واحدة. «يَولداش» تقف نقيضاً لعقلية الزعيم وأشكال الهيمنة والتسلسل الهرمي التي تنخر مجتمعاتنا.
وداعاً، يَولداش. وعاشت روح أوندر.
جهاد حمي: كاتب مقيم في ألمانيا. يدرس الأدب الإنكليزي والأمريكي في جامعة هامبورغ. تم نشر كتاب له باللغة الإنكليزية مؤخراً بعنوان «ROJAVA IN FOCUS: CRITICAL DIALOUGES» بالاشتراك مع البروفيسور توماس جيفري مايلي.