مصطفي عبدي
في منعطف بالغ الحساسية من تاريخ سوريا، أقدم الرئيس المؤقت أحمد الشرع على مقامرة خطيرة، لا تراهن على بناء المستقبل بقدر ما تعوّل على النسيان والتغاضي عن آلام الضحايا وذويهم. فمن خلال تعيينه شخصيات عسكرية متورطة في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في مناصب مهمة، لا يكتفي بتجاهل العدالة، بل يُعيد تشكيل الدولة على ذات الأسس التي مزّقتها، مُكرساً بذلك نهج الإفلات من العقاب، ومُجهضاً أي أمل حقيقي في مسار العدالة والمصالحة.
إنه انقلاب ناعم على مبادئ العدالة الانتقالية، واستنساخ فجّ لممارسات نظام الأسد، لا بتغليف الجرائم بالصمت، بل بإسناد السلطة لمرتكبيها. فقد باتت المؤسسة العسكرية السورية الجديدة مأوى لأسماء مدرجة على قوائم العقوبات الدولية، وأخرى وردت في تقارير أممية كمسؤولين مباشرين عن القتل والخطف والاغتصاب والتعذيب.
في لحظة كان يُفترض أن تشهد تصحيح المسار، وطي صفحة الماضي عبر المحاسبة والمصالحة لإنصاف الذاكرة الجمعية السورية، اختار القائمون على «سوريا الجديدة» أن يسيروا عكس الاتجاه، وأن يُثبتوا، مرة أخرى، أن تغيير الوجوه لا يعني بالضرورة تغيير النهج.
إن تعيين شخصيات مدرجة على لوائح العقوبات الأمريكية، مثل أحمد الهايس المعروف بـ«أبو حاتم شقرا»، قائدًا للفرقة 86 المسؤولة عن دير الزور والرقة والحسكة، وترقيته إلى رتبة عميد، لا يمكن اعتباره خطأ فردياً أو سوء تقدير سياسي، بل هو تموضع واضح ضد مسار العدالة الانتقالية، وخطوة تناقض مسار السلام واتفاقيات الاندماج مع شمال وشرق سوريا.
وفي وقت سابق، تم تعيين محمد جاسم، المعروف بـ«أبو عمشة»، قائداً للفرقة 25 في حماة، وسيف الدين بولاد، المعروف بـ«أبو بكر»، قائداً للفرقة 76 في حلب، وهما شخصيتان سيئتا الصيت، معروفان بارتكاب جرائم حرب بحسب تقارير منظمات حقوقية دولية. يضاف إليهم تعين لقادة آخرين متورطين بالأدلة في ارتكاب جرائم حرب منهم : فهيم عيسى تم تعينه نائب لوزير الدفاع، دوغان سليمان عين في منصب قائد الفرقة 72، عرابة إدريس ابو غازي عين في منصب قائد الفرقة 52 وآخرين
هذه التعيينات لا تعكس فقط غياب الإرادة السياسية لتحقيق العدالة، بل تكشف عن نهج ممنهج لإعادة إنتاج الدولة الأمنية بأدوات جديدة، تحت شعارات «التحرير» و«الاستقرار». فبدلاً من مساءلة المتورطين، تُفتح أمامهم أبواب النفوذ والشرعية، وتُقدَّم لهم المناصب كمكافأة ضمنية على ما ارتكبوه من فظائع.
هذه الخطوة تُجهز على أي أمل في بناء مؤسسة عسكرية وطنية نزيهة، وتُعيد إنتاج منظومة الولاءات والفساد التي طالما استخدمها النظام السابق للبقاء في السلطة. فكيف يمكن الوثوق بمستقبلٍ يُبنى على أنقاض الحقيقة، وتُداس فيه كرامة الضحايا بتوقيعٍ رئاسي؟
ما يجري لا يُمثّل فقط استخفافًا بمشاعر السوريين، بل يُعدّ هندسة متعمّدة لمرحلة ما بعد الجريمة، حيث يتحوّل القاتل إلى ممثلٍ للدولة، ويُدفع بالمجني عليه إلى هامش النسيان.
اليوم، يبدو أن الشرع لا يدعو فقط إلى النسيان علناً، بل يُحوّل مؤسسات الدولة إلى حصون لحماية المجرمين، مُفرغاً مفهوم العدالة من مضمونه، ومُكرّساً لمنطق الإفلات من العقاب كسياسة رسمية.
وفي مواجهة هذا المشهد القاتم، لا يعود السؤال فقط عن طبيعة الأشخاص المعيّنين، بل عن طبيعة الدولة التي يُراد بناؤها، والرسائل التي تُوجّه إلى الأجيال المقبلة. فعندما تُكافأ الجريمة، ويُستبعد الضحايا من معادلة العدالة، نكون قد دخلنا في نفقٍ من الإنكار الوطني، تتآكل فيه الثقة بين المواطن والدولة، وينهار فيه المعنى الحقيقي للانتماء.
سوريا، التي دفعت أثماناً باهظة في الأرواح والمعاناة، لا تحتاج إلى إعادة طباعة وجوه الطغيان، بل إلى قطيعة جذرية مع منطق الاستبداد والتمييز، وإلى بناء تعاقد اجتماعي جديد يقوم على المواطنة والحقوق والمحاسبة. أما استمرار الصمت، داخلياً وخارجياً، فهو دعوة مفتوحة لإعادة إنتاج المأساة، بحلّة «جديدة» لكن بجوهر قديم.
إن اللحظة الراهنة ليست فقط اختباراً للنخب السياسية، بل امتحان أخلاقي عميق للمجتمع السوري بكل مكوّناته. فإما أن يُرفع الصوت، وتُطالب المحاكم والمؤسسات الدولية بفتح تحقيقات ومحاسبة المتورطين، أو نكون جميعاً، بطريقة أو بأخرى، شركاء في الجريمة.
لا سلام يُبنى على الصمت، ولا دولة تنهض فوق أشلاء العدالة. ومن يظن أن الاستقرار يمكن أن يُشترى بالتنازلات الأخلاقية، لا يدرك أن هشاشة الشرعية لا تُداوى بالقوة، وأن الطغيان، مهما تلحّف برايات جديدة، يبقى طغياناً.
سوريا الجديدة، إن كُتب لها أن تُولد، يجب أن تُبنى على دموع الضحايا لا على دماء المجرمين، وعلى ذاكرةٍ تحرر لا تُمزّق. فالعدالة ليست ترفًا سياسيًا، بل شرط وجودي لبناء أي مشروع وطني صادق وعي ليست مجرد بند في اتفاق سياسي، بل هي حجر الأساس لأي مستقبل لا يعيد الكارثة.
مصطفى عبدي: كاتب وصحفي سوري، أسّس عدة مواقع إعلامية، وعمل على توثيق الانتهاكات خلال سنوات الحرب في سوريا.