نورهات حفتارو
في أول زيارة رسمية له إلى دولة أوروبية، التقى رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يوم أمس، السابع من مايو الجاري، في قصر الإليزيه. وتأتي هذه الزيارة في ظل تصاعد الاضطرابات داخل سوريا، بالإضافة إلى صراع النفوذ الإقليمي بين تركيا وإسرائيل، وتكرار الحديث عن الشروط الأميركية للاعتراف بحكومة دمشق ككيان شرعي.
ضمن هذا السياق، يبرز سؤال جوهري، ماذا تريد فرنسا من الشرع؟
في تاريخها الاستعماري القديم والحديث، لم تدعم الدول الغربية، أي كيانات ديمقراطية في الشرق الأوسط. بل كان جل تركيزها على تأهيل ودعم التيارات القوموية أو الإسلام السياسي
نزع التطرف عن «هيئة تحرير الشام»
في رده على سؤال صحفي، خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع أحمد الشرع، رفض ماكرون انتقادات اليمين الفرنسي التي طالت دعوته لرئيس المرحلة الانتقالية السوري. وكانت زعيمة «التجمع الوطني» مارين لوبان قد وصفت الشرع بأنه «جهادي تابع لتنظيم القاعدة والدولة الإسلامية»، في إشارة إلى خلفيته الجهادية السابقة. ماكرون علق على هذه التصريحات بقوله، «إنها غير مفهومة، والدبلوماسية لا تعني التشاور فقط مع من نتفق معهم، بل مع الجميع. هذه هي قوة أوروبا».
ورغم ما قد يبدو أنه موقف غير مألوف من اليمين الفرنسي، إلا أنه يعكس جانباً من حقيقة السياسات التي تنتهجها «المؤسسة البيروقراطية الفرنسية». فهذه السياسات تتناقض بشكل واضح مع الإرث الديمقراطي لأوروبا، الذي تآكل تحت تأثير المصالح المالية للأوليغارشية الحاكمة. ويبدو أن هذه السياسات تتبنى نهجاً جديداً في التعامل مع الجماعات المتشددة، يعتمد على مفهوم «نزع التطرف».
ويعتبر جوناثان باول، مستشار الأمن القومي البريطاني، من أكثر المدافعين عن اتخاذ نهج «الحوار مع الجماعات المسلحة»، لأن العنف المحض غير مجدي وفقاً له. والجدير بالذكر، بأن باول كان من أول الداعيين للحوار مع تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة»، حتى أنه التقى مع أحمد الشرع، المعروف آنذاك بـ«أبو محمد الجولاني» في إدلب 2021، وفقاً لوكالة تاس الروسية. وكانت المملكة المتحدة، الدولة الوحيدة، التي رفعت العقوبات بشكل شبه كلي عن سوريا.
وفي كتابه، «الحوار مع الجماعات المسلحة»، يدافع باول، عن الحوار مع التيارات الأكثر مرونة داخل الجماعات المسلحة، ودعمها لنزع التطرف عن هذه الجماعات ودمجها في بنية الدولة. إلا أن موقف باول، محصور في البعد الأمني، دون الاهتمام بالقيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، مركزاً على مصالح الدول في لعبة الأمم.
ويبدو أن فرنسا، تتبنى هذا النهج من منظور مصالحها الخاصة. إذ تعتبر أن تحقيق «الاستقرار» في سوريا، غير ممكن إلا عبر التواصل مع الحكومة الحالية بغض النظر عن خلفيتها المرتبطة بـ«القاعدة» و«داعش». وترى بأن «عدم الانخراط» سيؤدي إلى زيادة نفوذ التيارات المتشددة داخل الحكومة السورية الحالية بقيادة «هيئة تحرير الشام».
وفي تاريخها الاستعماري القديم والحديث، لم تدعم الدول الغربية، أي كيانات ديمقراطية في الشرق الأوسط. بل كان جل تركيزها على تأهيل ودعم التيارات القوموية أو الإسلام السياسي. لأنه ببساطة، تلعب هذه القوى المحلية، دور الوكلاء المحليين للقوى الخارجية، بالإضافة إلى التعاون غير المشروط مع الدول الغربية على حساب مجتمعاتها المحلية، مقابل دعم الغرب وصمته عن سلوكهم الاستبدادي تجاه مجتمعاتها.
ماذا تريد فرنسا من سوريا
استناداً إلى ما سبق، تقوم السياسة الفرنسية على ثلاث محاور رئيسية:
أولاً: مزاحمة النفوذ التركي والبريطاني. إذ تسعى فرنسا إلى تأمين «حصتها» في مستقبل سوريا السياسي والاقتصادي، في مواجهة النفوذ المتصاعد لكل من تركيا والمملكة المتحدة.
ثانياً: تعزيز التكامل السوري-اللبناني. ترى باريس في سوريا ولبنان امتداداً طبيعياً لمجال هيمنتها في المنطقة، وتسعى إلى تعزيز مشاريعها الاقتصادية والاستراتيجية على البحر الأبيض المتوسط.
ثالثاً: الأمن وعودة اللاجئين. تركز فرنسا على استعادة الاستقرار من خلال مكافحة تنظيم «داعش»، وإخراج المقاتلين الأجانب، وتهيئة بيئة مناسبة لعودة اللاجئين السوريين، بما يخدم مصالحها الأمنية.
تدافع المملكة المتحدة عن إرثها في بناء منظومة الدول القومية في الشرق الأوسط، ما مكنها من إدارة المنطقة عبر سياسة «فرق-تسد» لأكثر من قرن. في الجانب الأخر، يسعى اليمين المتطرف الإسرائيلي بقيادة نتنياهو، إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بهدف الهيمنة المطلقة على المنطقة، ما يهدد مكانة المملكة المتحدة في المنطقة
مزاحمة النفوذ التركي والبريطاني والتكامل بين لبنان وسوريا
تدافع فرنسا عن ميراثها الاستعماري في الشرق الأوسط، من خلال العودة إلى المشهد عبر البوابة اللبنانية-السورية. وقال ماكرون في المؤتمر الصحفي: «تاريخ طويل يجمع فرنسا وسوريا»، مضيفًا أن باريس تدعم «التعاون الأمني بين دمشق وبيروت، حتى لا تتحول المنطقة مرة أخرى إلى معبر لنفوذ إيران وحزب الله».
وبالنسبة لصانعي القرار الفرنسيين، فإن سوريا ولبنان يمثلان فضاءً استراتيجياً يجب ألا يُترك بالكامل لتركيا أو بريطانيا. ما يدفع باريس للبحث عن موطئ قدم حقيقي في دمشق.
اللافت وغير المعلن، أن إسرائيل تدعم ضمنياً الجهود الفرنسية في لبنان وسوريا، انطلاقاً من هدف مشترك يتمثل في تحجيم نفوذ إيران وحزب الله. وقد صرّح ماكرون بأنه «يشجع الحكومة السورية على إقامة علاقات حسن جوار مع إسرائيل». ولكن النقطة الأهم، هي هدف إسرائيل المتمثل، في تحقيق توازن النفوذ مع تركيا، وبريطانيا في الشرق الأوسط. تدافع المملكة المتحدة عن إرثها في بناء منظومة الدول القومية في الشرق الأوسط، ما مكنها من إدارة المنطقة عبر سياسة «فرق-تسد» لأكثر من قرن. في الجانب الأخر، يسعى اليمين المتطرف الإسرائيلي بقيادة نتنياهو، إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بهدف الهيمنة المطلقة على المنطقة، ما يهدد مكانة المملكة المتحدة في المنطقة. هذه السياسات المستترة، تدفع بمنطقتنا، وسوريا إلى دوامة من الصراعات غير المنتهية.
وفي خطوة تعكس رغبة باريس في تعزيز نفوذها الاقتصادي البحري على سواحل شرق المتوسط، وقّعت «شركة CMA CGM الفرنسية»، اتفاقية مع «الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية» في سوريا، لتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية لمدة 30 عاماً، بقيمة تبلغ 230 مليون يورو. وبموجب الاتفاق، ستتولى الشركة إنشاء رصيف بحري بطول 1.5 كيلومتر وعمق 17 متراً.
ماكرون: «سوريا لا يجب أن تتحول إلى ملاذ للجماعات الإرهابية»
الأمن أولوية فرنسية
ومن أبرز النقاط التي ركز عليها ماكرون في المؤتمر الصحفي المشترك، كانت مسألة «الأمن» و«مكافحة الإرهاب». فقد دعا الشرع إلى التعاون في مكافحة «داعش»، والتصدي لأذرع إيران في المنطقة، بالإضافة إلى حماية الأقليات ومحاسبة مرتكبي مجازر التطهير الطائفي في الساحل.
كما عبّر ماكرون عن دعمه لـ«اتفاق العاشر من مارس» بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي، والذي يمهّد لمسار اندماج قسد مع الحكومة الانتقالية في دمشق، مشجعاً الشرع على تعميق هذا التعاون في إطار مكافحة الإرهاب.
وشدّد ماكرون كذلك على ضرورة «إعادة بناء الاقتصاد والبنية التحتية، باعتبارها ركيزة أساسية لتهيئة بيئة مناسبة لعودة اللاجئين السوريين». وأكد أن كل تلك المسارات «مشروطة بحدوث تحول حقيقي في بنية الإدارة الجديدة في سوريا».
وفي سياق تأكيده على أهمية البُعد الأمني، قال ماكرون: «أمن سوريا جزء لا يتجزأ من أمن المنطقة والعالم»، مضيفاً أن «سوريا لا يجب أن تتحول إلى ملاذ للجماعات الإرهابية». واعتبر أن الانخراط الدبلوماسي الفرنسي يهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق الاستقرار، ومنع الانزلاق نحو فوضى أمنية تهدد المحيط الإقليمي والدولي.
أطلق الشرع تحذيراً صريحاً: «سوريا ليست على هامش الخريطة، وأمنها ضروري لأمن أوروبا»
أوراق فرنسا وردّ الشرع
في رده على أسئلة الصحفيين، شدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على أن تقييم بلاده للإدارة السورية الانتقالية، سيكون مبنياً على مدى «ترجمة الأقوال إلى أفعال خلال الأشهر المقبلة». وتستخدم فرنسا جملة من الأدوات السياسية للضغط على حكومة دمشق الانتقالية، تتصدرها العقوبات الأوروبية، ودعم قوات سوريا الديمقراطية، ومسألة حماية الأقليات.
وتندرج جهود فرنسا في دعم الوحدة الكردية في شمال وشرق سوريا ضمن استراتيجية أوسع لتعزيز نفوذها والضغط على سلطات دمشق.
وفيما يخص العقوبات، أوضح ماكرون أن بلاده «ستسعى إلى رفع تدريجي للعقوبات الأوروبية عن سوريا، وستضغط على واشنطن للسير في هذا الاتجاه»، مؤكدًا أن «أي تخفيف للعقوبات مشروط برؤية تغييرات حقيقية على الأرض».
من جانبه، لم يتأخر أحمد الشرع في الرد، إذ حاول إعادة رسم صورة حكومته عبر تقديم أوراق قوة مضادة. ففي خطوة لافتة، أشاد بـ«جهود المقاتلين الأجانب في الحرب ضد النظام السابق»، مشدداً على أنهم «لا يشكلون تهديداً»، وأن «آلية تجنيسهم ستُحدد في الدستور القادم».
أما فيما يتعلق بمجازر التطهير الطائفي التي شهدتها مناطق الساحل، فقد أنكر الشرع أي تورط لمؤسسات الحكومة الانتقالية، ملقياً باللائمة على ما وصفه بـ«فلول النظام»، مشيراً إلى «تشكيل لجان تحقيق مستقلة» للنظر في تلك الانتهاكات.
وفي البعد الأمني، أطلق الشرع تحذيراً صريحاً: «سوريا ليست على هامش الخريطة، وأمنها ضروري لأمن أوروبا»، وهو تصريح يعكس رغبة واضحة في تعزيز حضوره كشريك لا يمكن تجاوزه في معادلة الأمن الإقليمي.
من دون دعم حقيقي للقوى الديمقراطية، لن تتمكن الدول الغربية من تحقيق مصالحها على المدى الطويل. وستبقى لعبة الابتزاز الإقليمي مستمرة في سوريا، وسيظل الأمن الأوروبي مهدداً ما دامت السياسات ذاتها مستمرة
الحاجة إلى مقاربة مختلفة
ربما، وبشكل ما، تبدو إسرائيل أكثر إدراكاً لواقع المنطقة من المؤسسة الغربية. فهي تدرك أن نزع التطرف غير ممكن مع الجماعات التي تسيطر على دمشق، أو مع أي جماعة تنتمي إلى الإسلام السياسي، ما لم تخضع لتحولات أيديولوجية عميقة. فالأيديولوجيا الجهادية، تشكل خطراً مستقبلياً على أمنها.
وفي إشارة لافتة، قال الشرع أن «فرنسا تمتلك رؤية حول كيفية تشكيل ملامح الدول الحديثة». فوفقاً للمفكر السوري-الألماني بسام طيبي، فإن نموذج الدولة القومية السورية مستوحى من «الجمهورية الفرنسية الثالثة» شديدة المركزية، ومن «النموذج الألماني النازي» المفرط في قوميته. والمفارقة أن فرنسا نفسها قد تخلّت كلياً عن هذا النموذج. وفي سوريا، فإن هذا بالتحديد ما يجب تجاوزه. إذ ما تزال سوريا أسيرة أيديولوجية «الأمة القومية»، سواء بصيغتها القومية أو الإسلامية، ونموذج الحكم المركزي الأحادي.
تفشل السياسات الغربية دائماً في الشرق الأوسط، بشكل هزلي ومتكرر. والسبب بسيط: تنظر القوى الغربية إلى المنطقة من منظور المصالح الآنية، وتتبنى نظرة قائمة على التفوق تجاه الشرق، وتحتكر مفاهيم الديمقراطية والتقدّم وفق رؤيتها الخاصة، مع الاستمرار في إعادة تدوير القوى القومية والإسلاموية في المنطقة.
ويُعلّمنا التاريخ الحديث للإقليم، أنه من دون دعم حقيقي للقوى الديمقراطية، لن تتمكن الدول الغربية من تحقيق مصالحها على المدى الطويل. وستبقى لعبة الابتزاز الإقليمي مستمرة في سوريا، وسيظل الأمن الأوروبي مهدداً ما دامت السياسات ذاتها مستمرة.
نورهات حفتارو: كاتب يهتم بالقضايا السياسية والعلاقات الدولية في الشرق الأوسط وسوريا.