شيراز حمي
جاء إعلان حزب العمال الكردستاني حلّ نفسه رسميًا في 9 أيار/مايو 2025، تتويجاً لنداء عبد الله أوجلان الصادر في 27 شباط/فبراير بعنوان «السلام والمجتمع الديمقراطي». وقد اتُّخذ هذا القرار خلال المؤتمر الثاني عشر للحزب، الذي أقرت فيه قيادته تفكيك التنظيم ونزع سلاحه، في خطوة وُصفت بأنها تاريخية في مسيرة الحركة الكردية.
برّر أوجلان هذا القرار بأن الحزب قد استنفد دوره التاريخي، وبات يعاني من تكرار مفرط في آلياته وأفكاره، مما جعله، على حد تعبيره، «يفقد أهميته ويُشبه نظرائه الذين أكملوا مهماتهم». لكن هذا التحوّل المفاجئ ترك فراغاً واسعاً في الأوساط الكردية، وأثار تساؤلات جوهرية: ما الذي سيأتي بعد الحزب؟ من سيملأ الفراغ التنظيمي والسياسي؟ وما هو الشكل البديل للنضال الكردي؟ بل الأهم: كيف سيُعاد تعريف الفاعل السياسي الحامل للمشروع في المرحلة القادمة؟
في بدايات تأسيسه، تبنّى أوجلان نموذج الحزب الثوري الطليعي المستمد من التراث الماركسي-اللينيني، باعتباره أداة مركزية للتغيير. هذا النموذج، القائم على نواة من الكوادر المحترفة والتنظيم الصارم والانضباط الحديدي، كان يهدف إلى قيادة المجتمع نحو الثورة والاستيلاء على السلطة بالعنف، انطلاقاً من وعي طبقي ورسالة تحررية.
لكن تجارب الحركات الثورية في دول ما بعد الاستعمار، والتي يصفها أوجلان بـ«النظيرة»، أظهرت فشلاً منهجياً في بناء أنظمة سياسية عادلة تضمن الحريات وتحقق العدالة الاجتماعية. هذا الفشل، إلى جانب الانهيار التاريخي للاتحاد السوفيتي وصعود الليبرالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة كإيديولوجية مهيمنة، دفع أوجلان، خلال فترة سجنه، إلى مراجعة جذرية شاملة. وبدأ البحث عن نموذج بديل للفاعل الثوري، لا يقوم على الطبقة العاملة أو الحزب الطليعي، بل يتجسد في صيغة مجتمعية أوسع.
تعرّض الحراك المدني، خصوصاً عبر «HDP» بقيادة صلاح الدين دميرتاش، إلى شبه تصفية سياسية في تركيا. في روجافا، على الرغم من الإنجازات العسكرية، فشلت الحركة في بناء مجتمع سياسي ديمقراطي فعّال يتمتع بإرادة ذاتية. بل تحوّل إلى ساحة لاحتكار السلطة والثروة، ما جعل التجربة عرضة لتآكل داخلي وفقدان شرعيتها المجتمعية
في هذا السياق، طرح أوجلان نموذج «منظومة المجتمعات الكردستانية KCK» كبديل تنظيمي يتجاوز الحزب الكلاسيكي. وقد صاغ هذا الاتحاد كمنظومة شاملة، لا تقتصر على القوى السياسية والعسكرية، بل تضم أيضاً منظمات المجتمع المدني والشخصيات الفاعلة، وتقوم على التشاركية الشعبية واتخاذ القرار من القاعدة إلى القمة.
سعى أوجلان عبر هذا النموذج إلى تقليص احتكار السلطة من قبل الحزب، وتوزيع القوة بين مختلف مكونات المجتمع، عبر المجالس الشعبية والتنظيمات المدنية. كما جعل من مقاومة الذهنية السلطوية، بأشكالها السياسية، والدينية، والثقافية، والعرقية، والذكورية، مبدأً تأسيسياً لا يخضع للمساومة.
رغم وضوح هذا التصور على المستوى النظري، إلا أن ترجمته إلى واقع ملموس ظلّ غائباً، بل وأُجهض في بعض الحالات. في باكور (شمال كردستان)، سواء عبر حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) سابقاً أو (DEM) لاحقاً، وفي روجافا كذلك، اتضح أن البنى التنظيمية المركزية القديمة لا تزال مهيمنة، رغم بعض التعديلات الشكلية. حيث بقيت الهياكل الفكرية والتنظيمية المرتبطة بنموذج الحزب الطليعي راسخة، واستمرت الممارسات التي تكرّس احتكار القرار وإقصاء الإرادة المجتمعية الحقيقية. وبقيت الجهود محصورة في التعبئة الدعائية والعمليات العسكرية، ولم يتم التركيز على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل كبير، وهو ما انعكس سلباً على المشروع العام.
أدت المواجهات المسلحة في باكور، في صيف 2015، إلى دمار واسع، ومقتل عدد كبير من المدنيين والمناضلين، وتهجير عشرات الآلاف، إلى جانب خسارة قاعدة واسعة من التأييد الشعبي للحزب والحركة الكردية عامة. وتعرّض الحراك المدني، خصوصاً عبر «HDP» بقيادة صلاح الدين دميرتاش، إلى شبه تصفية سياسية. أما في روجافا، فعلى الرغم من الإنجازات العسكرية، فشلت الحركة في بناء مجتمع سياسي ديمقراطي فعّال يتمتع بإرادة ذاتية. بل تحوّل إلى ساحة لاحتكار السلطة والثروة، ما جعل التجربة عرضة لتآكل داخلي وفقدان شرعيتها المجتمعية.
بذلك، ساهم هذا النموذج الطليعي، بقصد أو دون قصد، في إفراغ مشروع «الكونفدرالية الديمقراطية» من مضمونه الحقيقي، وقوّض إلى حد كبير، بفعل بنيته التنظيمية وأسلوبه في إدارة الصراع. وعليه، عمل أوجلان على إعادة إحياء الفعل السياسي من داخل الأزمة.
هكذا تحوّل الحامل السابق – حزب العمال الكردستاني – إلى عائق أمام مشروع دمقرطة المجتمع. وهو ما يصفه التراث الماركسي بتحوّل الثورة إلى نقيضها حين تفشل في تجاوز شروطها الذاتية. أي أن الحزب، رغم قوته الرمزية والعسكرية، عجز عن إحداث انتقال نوعي من أدوات النفي (السلاح والمعارضة المسلحة) إلى أدوات البناء (التنظيم المجتمعي الديمقراطي).
النضال السياسي عند أوجلان يقوم نظرياً على مستويين متوازيين متناقضين ومتداخلين في الآن معاً. الأول يتمثل في دمقرطة الدولة من الأعلى، والثاني في تنظيم ودمقرطة المجتمع من الأسفل
خلق أفق جديدة للنضال
النضال السياسي عند أوجلان يقوم نظرياً على مستويين متوازيين متناقضين ومتداخلين في الآن معاً. الأول يتمثل في دمقرطة الدولة من الأعلى، والثاني في تنظيم ودمقرطة المجتمع من الأسفل. النقيضان، الدولة والمجتمع، والعلاقة بينهما يشكلان أسلوبياً وحدة تحليل أساسية في عملية البحث والتقييم السياسي والاجتماعي عند أوجلان. في هذه الجدلية يميل أوجلان بقوة إلى المجتمع. لهذا نراه يستخدم كلمة المجتمع كثيراً. في حين لا يسعى إلى إنكار الدولة ورفضها مباشرة على غرار الأناركيين، بل إزاحتها تدريجياً عبر توسيع «الاستقلالية الديمقراطية». ويعبر عن ذلك بقوله: «الديمقراطية الكاملة هي حالة لا وجود فيها للدولة. أما سيادة الدولة الكاملة فتعني غياب الديمقراطية».
دمقرطة الدولة والمجتمع والعلاقة الجدلية بينهما تشكلان عملياً ساحة الفعل السياسي عند أوجلان، التي يمَكن المجتمع من إظهار مدى قوته وطاقته عن حق. هذا يعني أن الدمقرطة ذات المستويين شرط لا بدّ منه نحو المجتمع الديمقراطي. في الواقع اصطدم هذا المفهوم النضالي بشروط واقعية غير ناضجة. حيث ظلت القومية التركية، بشقيها الإسلامي والليبرالي، بل وحتى اليساري، غير قادرة على تخطي الذهنية الإقصائية تجاه الآخر المختلف والقبول بالتشاركية الشاملة. من الجانب الآخر، وصلت الحركة الطليعية حول الحزب العمال أيضاً إلى نهاية إنتاجها السياسي، بعد أن فشلت في فهم وتبني مفهوم تمكين المجتمع وتسييسه ديمقراطياً، ليصبح واقعاً سياسياً ملموساً يُمكن من خلاله ممارسة النضال، رغم الإمكانيات والفرص. إلى جانب هذه الشروط الذاتية، ساهمت أيضاً الظروف الموضوعية على الصعيدين الإقليمي والدولي، وما نتج عنها من تدخلات خارجية وصراعات تحالفية، أفضت إلى حروب أهلية وطائفية وعرقية، في تعزيز نزعة الهيمنة لدى كل من القومية التركية وحزب العمال عبر حصر القوة والسلطة ضمن دائرة نخبوية ضيقة. نتيجة لذلك، تم تهميش المجتمع وإقصاؤه من المعادلة تماماً، مما أدى إلى انسداد الأفق السياسي وبلوغ الطرفين مأزقاً خطيراً ينذر بانفجار كارثي.
في هذا السياق المضطرب، مثل نداء أوجلان في «السلام مقابل السياسة الديمقراطية» خطوة استثنائية في لحظة مفصلية، وأعاد الاعتبار مجدداً لصوت المجتمع، التركي والكردي على حد سواء. فحل الحزب والتخلي عن العمل المسلح مقابل قبول الدولة التركية بفتح المجال العام أمام العمل السياسي الحر، بضمانات قانونية، يراه أوجلان السبيل المممكن في تحقيق سلام مشرّف للطرفين. ينبع إصرار أوجلان على حرية الممارسة السياسية من استلهامه لفكر الفيلسوفة السياسية حنّة أرنت، التي ترى أن السياسة هي تعبير عن الحرية. فهو يميز بين السياسة بوصفها أداة للتحرر، والدولة كجهاز للهيمنة، ويؤمن أن الحرية تتجلى في التسييس الحقيقي للمجتمعات. المجتمعات التي تسيّس نفسها هي وحدها القادرة على التحرر. ويؤكد على أن: «الشرط الجوهري لتحرر أي مجتمع أو أمة هو الإبقاء على حيويته السياسية».[1]
استجابة الحزب للنداء، والإعلان عن «حل نفسه وإنهاء الكفاح المسلح»، لا تزال غير مفهومة لدى الغالبية في الأوساط الكردية والتركية. إذ كانت هذه الخطوة، راديكالية وجريئة، بل وربما حاسمة أيضاً في النضال السياسي الكردي والمجتمعي الديمقراطي عموماً. لكنها بدت ضرورية لإنقاذ السياسة من مستنقع الصراع الهوياتي وخلق فضاء عمومي جديد، يمكن من خلاله للمجتمع أن يستعيد قوته المعنوية والتعبيرية. هذا الفضاء العام، والذي من المنتظر ان يتقاطع في جوهره مع مفهوم «المجتمع الديمقراطي»، ينبغي أن يشرعن و يتضمن: «احترام الهوية، وحرية التعبير، والتنظيم الذاتي، وبناء المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكل مكوّن على أسس خصوصيته». هذه المبادئ العامة، دون حصرها بالقضية الكردية، ستشكل الأرضية الاستراتيجية، التي ينطلق منها أوجلان، لبناء الكونفدرالية الديمقراطية المنشودة. وتُعد هذه المقاربة في التعاطي مع القضايا العالقة منهجاً جديداً وثورياً ضمن مسارات البحث السياسي النوعي في مجالات الصراع، والتسوية، والتحول الديمقراطي.
من هذا المنظور، يمكن فهم واستيعاب دعوة أوجلان إلى التخلي عن السلاح مقابل الشراكة السياسية. بالطبع، لا يعني هذا إلغاءً جذرياً لحزب العمال الكردستاني، بل احتضانه وتطويره في الوقت نفسه. أي الحفاظ على ما أنجزه من وعي وتنظيم وقوة اجتماعية، ورفعه إلى مستوى سياسي جديد يمكّنه من الشروع في تطبيق الأفكار على الأرض.
المصادر:
[1] عبد الله أوجلان، الأمة الديمقراطية، ص. 42 وما بعدها
شيراز حمي: كاتب ومختص في العلاقات الدولية، حاصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة هامبورغ في ألمانيا.