ترامب وترند «عدم التدخل»  

نورهات حفتارو

 في الشرق الأوسط، وفي سوريا على وجه الخصوص، لا بد من تبنّي رؤية تقوم على السلام، والحوار، والعقل المشترك. فما تزال أمام شعوب المنطقة وقواها الديمقراطية فرصٌ حقيقية لتوسيع المجال السياسي، وتنظيم المجتمعات، وبناء علاقات داخلية وخارجية قائمة على السيادة، والديمقراطية، والتكامل الإقليمي.

في منشور على منصة X، بتاريخ 25 مايو الماضي، صرّح توم باراك، سفير الولايات المتحدة لدى تركيا والمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، بأن «مأساة سوريا وُلدت من الانقسام»، مضيفاً أن «اتفاقية سايكس-بيكو قسمت سوريا والمنطقة الأوسع من أجل المكاسب الإمبريالية».

جاء هذا التصريح تأكيداً لخطاب الرئيس ترامب الذي ألقاه في 13 مايو الجاري في السعودية، حيث وجّه انتقاداً حاداً لمنظومة العولمة التي رُوّج لها من قِبل من سمّاهم «المتدخلين» من المحافظين الجدد والمنظمات غير الحكومية الليبرالية، بالإضافة إلى من وصفهم بـ«بُناة الأمم». وقال: «ما يُسمّى ببُناة الأمم دمّروا دولاً أكثر بكثير مما بنوا، وكان المتدخلون يتدخلون في مجتمعات معقّدة لم يكونوا يدركون طبيعتها أصلاً». وأضاف: «لقد أنفقوا تريليونات الدولارات وفشلوا في تطوير بغداد وغيرها من المدن». وفي المقابل، أشاد بما أسماه «المعجزة العربية»، مؤكدًا أن «السلام والازدهار والتقدم لم تتحقق من خلال رفض جذري للإرث الثقافي، بل عبر التمسك بالتقاليد الوطنية واحتضان ذلك الإرث».

للوهلة الأولى، قد يبدو هذا الخطاب مضاداً للاستعمار والإمبريالية، وداعماً لما سمّاه ترامب بـ«التراث الوطني» للدول. ولكن، كيف يمكن تفكيك هذا الخطاب الأيديولوجي؟ وكيف سينعكس ذلك على العلاقات الدولية في الشرق الأوسط، وسوريا على وجه الخصوص؟

مشروع ترامب

بعد الحرب العالمية الثانية، قامت السياسة الخارجية الأمريكية على التدخل، و«تغيير الأنظمة»، وبناء الأمم، والسياسات المدفوعة بـ«القيم الليبرالية»، ومكافحة الإرهاب. وتُعد التجربتان العراقية والأفغانية أبرز نتائج هذا النموذج.

وفي ولايته الثانية، يعمل ترامب وفريقه على إعادة رسم ملامح السياسة الخارجية الأمريكية. إذ أصبحت مفاهيم مثل حقوق الإنسان، والديمقراطية، والقانون الدولي، والمساعدات الخارجية، والتدخلات العسكرية، خارج إطار السياسة الجديدة. وبدلاً منها، باتت الصفقات الاقتصادية، والابتزاز، والاستقرار الإقليمي، والمصلحة الذاتية البراغماتية، هي العناوين العريضة لهذه السياسة.

عملياً، يرفض ترامب القيم الليبرالية التقليدية، مثل حقوق الإنسان وتمكين المرأة، ليستبدلها بقيم قائمة على أيديولوجية اليمين المتطرف، التي ترسّخ العنصرية، وكراهية المهاجرين، وقيم العائلة المحافظة، والتطرف في حرية السوق وحرية التعبير، وتدعم التيارات اليمينية المستبدة حول العالم. ودعم إيلون ماسك لحزب البديل من أجل ألمانيا، اليميني المتطرف، كان ضمن هذا السياق.

كل ذلك يجري ضمن نهج جديد يُطلق عليه ترامب وأتباعه اسم «عدم التدخل»، وهو في جوهره ترجمة لمبدأ «أمريكا أولاً» في سياق العلاقات الدولية. وبصيغة أخرى، فإن «عدم التدخل» لا يعني ترك العالم يسير كما هو، بل التدخل حين تقتضي المصلحة الأمريكية ذلك، ولكن من دون أي مساحيق تجميل أو خطابات عن حقوق الإنسان والقيم الليبرالية.

وبالتالي، ترامب لا يصنف ببساطة كصقر أو حمامة، ولا كمحافظ جديد أو منعزل. كجاكسوني، يجمع بين الاستعداد لمواجهة الأعداء ورفض التدخلات الخارجية الطموحة وبناء الدول.

مصطلح «جاكسوني» يعود إلى محلل السياسة والتر راسل ميد، ويرمز إلى نهج الرئيس أندرو جاكسون وتأثير الثقافة الريفية الأمريكية، حيث يترك الجاكسونيون العالم ينظم نفسه إلا عند تهديد مباشر يتصرفون بحزم وشراسة.

رغم ذلك، تنفي إدارة ترامب في خطابها الرسمي أي تصنيفات محددة تُوجه لتيارها الذي يُوصف بالعنصرية. وفي وقت سابق، كانت قد أعلنت سفير جنوب أفريقيا شخصاً غير مرغوب فيه بسبب تصريحاته غير الرسمية التي تناولت تفوق العرق الأبيض في الولايات المتحدة.

عملياً، تختلف سياسات ترامب عن سابقيه في أنه يستخدم صلاحياته التنفيذية بالكامل، ويبتز الدول علناً لتحقيق ما يراه مصلحة لأمريكا، وهي غالباً ما تكون ممزوجة بمصالحه الشخصية والعائلية، وبأكثر الأساليب فظاظة وعلنية.

ويأتي هذا كلّه ضمن إطار مشروع أوسع. وعلى عكس ما تروّج له الأوساط الليبرالية واليسارية، فإن ترامب يمتلك عقيدة ومشروعاً واضحاً. ولهذا المشروع هدفان رئيسيان: تطويق الصين وإبطاء نموّها الاقتصادي والتكنولوجي، خاصة في مجالي الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الحوسبة السحابية؛ والتخلّص من العجز والديون الأمريكية عبر تحميل العالم كلفتها.

تهدف هذه الأيديولوجية اليمينية المتطرفة إلى القضاء على العولمة، باعتبارها قد أفادت الصين وأسهمت في تراجع النفوذ الأمريكي، لا سيما في ظل ديون أمريكية تجاوزت 2 تريليون دولار. لقد دمّرت العولمة، نتيجة هجرة المصانع الأمريكية، مجتمعات الطبقة العاملة والوسطى، التي أصبحت تمثّل القاعدة الانتخابية الأساسية لترامب. وقد فكّكت إدارة ترامب وكالة التنمية الدولية الأمريكية، باعتبارها أحد أبرز معالم العولمة الأمريكية.

وفقاً للكاتبة الأمريكية الشهيرة نعومي كلاين، يهدف هذا المشروع إلى إقامة نظام عالمي جديد يقوم على فكرة «الدول-الحصون»، ذات الحدود المغلقة، والمبني على أسس فصل عنصري حديث تغذّيه كراهية المهاجرين. وفي هذا العالم الذي تهيمن عليه شريعة القوة، يسعى دونالد ترامب إلى فرض السيطرة على مواقع استراتيجية، مثل قناة بنما، عبر استخدام مباشر للقوة والنفوذ.

وتشير كلاين أيضاً إلى أن هذا التوجه لا يساهم فقط في تعميق أزمة المناخ، بل يسرّع من عملية تركيز الثروات المتبقية في يد نخبة ضيّقة من «أمراء الإقطاع التقني المعاصر»، من أمثال جيف بيزوس، وبيتر ثيل، وإيلون ماسك، وغيرهم من المقربين من ترامب.

الشرق الأوسط من منظور ترامب

في مدحه للتراث الوطني لبلدان الشرق الأوسط، يعزّز ترامب النزعات الثقافية الانعزالية في المنطقة من خلال نظرة استشراقية متعالية. فبحسب ترامب، لا تصلح مفاهيم مثل حقوق الإنسان، والقوانين الدولية، والديمقراطية لهذه البلدان، إذ يرى أن تركيبتها الثقافية «الأصيلة» هي السبب في مسار تطوّرها. لكن كل ذلك خطاب مخادع.

أولاً، إن جميع الدول القومية في الشرق الأوسط كانت نتيجة مباشرة للتدخل الاستعماري الغربي في المنطقة. ثانياً، لا توجد ثقافات «أصيلة وطاهرة» في أي بقعة من العالم؛ فجميع الثقافات والمجتمعات تنطوي على تناقضات وانقسامات داخلية، تتشكّل وفق مصالح ومواقع وطبقات اجتماعية مختلفة. ثالثاً، إن حقوق الإنسان والقانون الدولي هما قيم كونية تخص البشرية جمعاء، ولا تملكها دولة أو إمبراطورية بعينها.

وتحت هذا الخطاب، يدعم ترامب بشكل مباشر قوى اليمين المتطرّف في الشرق الأوسط، ويستبعد القوى الليبرالية والديمقراطية الجذرية، ليس فقط في منطقتنا المضطربة، بل في أنحاء العالم كافة. وهو ما يُفسّر عداءه الشديد لأوروبا أيضاً.

بناءً على ما سبق، فإن اليمين المتطرّف بقيادة ترامب يسعى إلى إعادة تشكيل العلاقات الدولية مع الشرق الأوسط عبر إعادة توزيع المسؤوليات على الشركاء الإقليميين المحافظين، وتعزيز الشراكات الاقتصادية المتبادلة، وإلغاء جميع برامج «بناء الأمم»، ودمج الدول الأخرى ضمن ما يُعرف بـ«الاتفاقات الإبراهيمية». ويمكن فهم تصريحات باراك، حول انتهاء سايكس بيكو، بانها تشريع لتوسيع إسرائيل لحدودها، ومجال نفوذها الأمني، وتقاسم النفوذ مع تركيا والدول الأخرى في المنطقة.

وهذا لا يعني إطلاقاً أن الولايات المتحدة تنوي الانسحاب بالكامل من الشرق الأوسط، بل إنها تعيد رسم سياساتها ومقاربتها تجاه الإقليم. ووفقاً للمعطيات الحالية، فإن سياسات ترامب تدعم توزيع القوة بين تركيا، ودول الخليج، وإسرائيل، في حين يُتوقّع إخضاع إيران، إمّا عبر المفاوضات أو من خلال استخدام العنف المباشر. وبالطبع، ستكون لإسرائيل الحصّة الأكبر في الهيمنة على المنطقة.

وعليه، تفتح مقاربة ترامب، القائمة على التهديد باستخدام القوة المباشرة، وعقد الصفقات مع ديكتاتوريات المنطقة والاعتراف بها، تحت شعار «عدم التدخّل» في بناء الأمم، الباب أمام مسارين متناقضين:

أولاً: تقوية الأوليغارشية الاستبدادية، وغضّ الطرف عن انتهاكاتها الجسيمة لحقوق شعوبها.

ثانياً: وبشكل مفارق، قد تفتح هذه السياسات المجال أمام القوى الديمقراطية والاجتماعية لعقد اتفاقات مع دول المنطقة على أساس السلام والدستور الديمقراطي، وهي عملية تتطلّب جهوداً سياسية واجتماعية جبّارة.

سوريا وفق رؤية ترامب

جاء لقاء الرئيس دونالد ترامب مع أحمد الشرع، رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، في هذا السياق، بعد وساطة سعودية-تركية. وقد أبدى ترامب إعجابه بالشرع، واصفاً إيّاه بـ«الرجل القوي ذو الماضي القاسي». ووفقاً لترامب، فإن شخصية من نمط الشرع هي الوحيدة القادرة على إدارة منطقة مليئة بالاضطرابات والحروب الأهلية مثل سوريا.

ورغم تصريح روبرت فورد بأن الشرع تلقّى تدريبات على يد منظمة بريطانية، إلى جانب تقارير أخرى تؤكّد وجود دعم استخباراتي واقتصادي من الولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا عبر منظمات غير حكومية، فإن ترامب يعيد تفسير ذلك بلغة أيديولوجية فاضحة، وكأن «الشرع» هو النتيجة الحتمية الذاتية لواقع إدارة منطقة كهذه.

ومن الطبيعي القول إنه لولا الدعم الغربي، والضربات الإسرائيلية التي تصاعدت بعد السابع من أكتوبر، لما تمكّنت «هيئة تحرير الشام» من الوصول إلى سدّة الحكم في دمشق. وكما وصف سلافوي جيجك في بدايات عام 2011، فإن الصراع السوري، منذ بدايته، كان زائفاً، ولا يهدف إلى إحداث تغيير ديمقراطي جذري، بل كان صراعاً على السلطة بين القوميين والإسلاميين، بدعم دولي من أطراف متعددة. والعديد من قوى المعارضة لم تكن تملك مشروعاً ديمقراطياً حقيقياً لتحقيق «الحرية والكرامة».

وبحسب رؤية ترامب، فإن المهمة الأمريكية في سوريا تقترب من نهايتها: فقد تم دحر إيران وتقليص نفوذ روسيا والقضاء على تنظيم «داعش»، ويتم حالياً نقل المسؤوليات إلى الدول الإقليمية مثل تركيا، ودول الخليج، بالإضافة إلى إسرائيل. ومع تطبيق اتفاق «قسد – دمشق»، يُرجّح أن ينسحب الجيش الأمريكي من سوريا بطريقة منظّمة، دون فوضى كتلك التي حدثت في أفغانستان. وبالفعل، وفقًا لما صرّح به باراك، فإن الولايات المتحدة تنسحب تدريجياً من سوريا، وستُبقي على قاعدة واحدة فقط من أصل ثماني قواعد.

وإن لخّصنا السياسة الأمريكية في سوريا، فهي تقوم على عدة نقاط:

  • نقل المسؤولية في سوريا إلى دول إقليمية، وتوزيع النفوذ والثروة بين تركيا، وإسرائيل، ودول الخليج، والأردن.
  • التطبيع الكامل بين إسرائيل وسوريا، ودمجها في اتفاقات أبراهام.
  • تحويل سوريا إلى خزان جهادي، لا سيما بعد الموافقة على دمج 3500 مقاتل أجنبي في الفرقة 84 بالجيش السوري، ربما لإخراج روسيا عسكرياً من سوريا، وربما لأهداف أخرى تتعلق بالعراق وإيران.
  • دمج قوات سوريا الديمقراطية مع دمشق، والانسحاب التدريجي من سوريا، مع الإبقاء على قوات محدودة جداً لتخفيف التكاليف.
التضامن العالمي

بناء على ما سبق، وفي ظل الفوضى التي يُحدثها ترامب في العالم، لا يكمن الحل في العودة إلى الوراء. على العكس، وفي مواجهة نمطي الاستعمار، سواء «القائم على التدخّل» أو «القائم على عدم التدخل»، تبرز أهمية تعزيز التضامن العالمي على مستوى الدول والمجتمعات. فالتحديات الكبرى، مثل تغيّر المناخ، وتداعيات الذكاء الاصطناعي، وأزمات الهجرة، لا يمكن التصدي لها إلا من خلال جهود دولية متكاملة وتعاون عابر للحدود.

وقد شكّلت جائحة كوفيد-19 الاختبار الأبرز للبشرية، والتجربة الأوضح دلالةً على أن العالم بحاجة إلى «التعاون» و«التضامن»، لا إلى الانعزال والانقسام.

في الشرق الأوسط، وفي سوريا على وجه الخصوص، لا بد من تبنّي رؤية تقوم على السلام، والحوار، والعقل المشترك. فما تزال أمام شعوب المنطقة وقواها الديمقراطية فرصٌ حقيقية لتوسيع المجال السياسي، وتنظيم المجتمعات، وبناء علاقات داخلية وخارجية قائمة على السيادة، والديمقراطية، والتكامل الإقليمي.

فمن دون هذا الخيار، تبدو أيديولوجية «اليمين المتطرف» وكأنها تُسرّع من «نهاية العالم»، وتدفع البشرية نحو «الانتحار الجماعي» بدلاً من «التضامن الجماعي».

 

نورهات حفتارو: كاتب يهتم بالقضايا السياسية والعلاقات الدولية في الشرق الأوسط وسوريا.