من الثورة إلى المجتمع الديمقراطي: أوجلان ما بعد العمال الكردستاني (2)

شيراز حمي

النضال داخل الدولة

رغم الغموض الذي يكتنف مسار المفاوضات «السرية العلنية» بين الدولة وإمرالي، إلا أن قراءة التحولات الراهنة في ضوء المفاهيم المركزية للأوجلانية تكشف أن أوجلان ما زال ملتزماً باستراتيجية التغيير المزدوج: فهو يخوض جدالاً مع الدولة كـ«ذات تاريخية» من الداخل بهدف إعادة تشكيلها، ويواصل، في الوقت نفسه، إعادة صياغة أدوات الحراك المجتمعي بصمت ومن دون إعلان.

من الناحية النظرية، يبدو أن أوجلان يتحرك في جداله مع الدولة من الأعلى ضمن مفاهيم الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس، في عدم الصدام مع الدولة، بل العمل على إصلاحها، عبر دفعها إلى القبول وتأسيس مجالات عامة تسمح بطرح القضايا ومناقشتها والعمل على إيجاد حلول لها على أسس عقلانية. أي أن أوجلان يسعى عملياً إلى تفعيل منصات تداولية عقلانية بين جميع الأطراف الفاعلة تتجاوز منطق الديمقراطية الليبرالية وموازنات القوى الانتخابية. منصة باهجلي – أوجلان – أردوغان، ومنصة دم بارتي (حزب المساواة وديمقراطية الشعوب) مع جميع الأطراف السياسية التركية والكردية، أمثلة عملية على ذلك. ومن المتوقع أن يتم تطوير منصات أخرى سياسية جماهيرية شعبية للحوار والنقاش في المرحلة المقبلة.

يسعى أوجلان من خلال التشديد والتأكيد على ضرورة توفير شروط المجتمع الديمقراطي آنفة الذكر في حواره مع الدولة، إلى خلق بدائل وطرق جديدة لمعالجة القضية الكردية والقضية الديمقراطية في تركيا عموماً. ويأتي هذا بعد أن بلغت الديمقراطية الليبرالية البرلمانية، القائمة في عملها بشكل أساسي على مبدأ النسبة المئوية وأغلبية التمثيل في التصديق على أي قرار وتمريره قانونياً، حدودها كأداة فعّالة متاحة لحل الأزمات، إذ أخفقت في إيجاد حلول جذرية للقضايا البنيوية العالقة، وأبقتها عالقة في «منطقة ما بين الحل واللا حل».

لكن ما الدور الذي سيبقى للبرلمان في ظل هذا التوجه، خاصة مع إصرار جميع الأطراف المتفاوضة على اعتباره المرجعية الشرعية لأي تسوية؟ يشدد أوجلان بإلحاح على ضرورة أن يصادق البرلمان، ولو تدريجياً، على جميع المطالب العامة المرتبطة بالمجتمع الديمقراطي. فوظيفته في هذا السياق لا تتمثل في إنتاج أو صياغة القرارات، بل في تصديق وإقرار المبادئ الأساسية كمقدمة ضرورية، تُشكّل الإطار العام وساحة الفعل السياسي. باختصار، سينحصر دور البرلمان في إضفاء الشرعية على مقترحات وشروط السلام، بدلًا من خوض غمار النقاشات التفصيلية المعتادة لصياغتها.

الواقع معقد جداً، والتناقضات على أشدها، واحتمالية اندلاع حرب مدمرة قائمة في أي لحظة. والانطلاق من «الصفر» في ظل هذه الظروف الحساسة، قد يحمل مخاطر جسيمة على المدى البعيد في حال لم تكتمل أو تنجح العملية. في هذه الحالة، يشكل الأمر تحدياً كبيراً، بل مغامرة جسيمة لأوجلان كقائد سياسي ولمشروع الأوجلانية ككل

النضال عبر المجتمع

لكن ماذا يعني عمليا الاكتفاء بتوفير شروط الديمقراطية كشرط أولي ونقطة انطلاق لتحقيق السلام؟ وماذا عن الحقوق القومية الكردية الجماعية الخاصة؟ وماذا عن سبل تحقيق نموذج المجتمع الكمونالي الديمقراطي الإيكولوجي البديل؟ وما هي الخطوات العملية التي ينبغي اتخاذها من الآن فصاعدًا للوصول إلى هذه الأهداف؟ هذه أسئلة يطرحها كل من يؤمن بأوجلان ويتضامن معه على المستوى الكردي الوطني والعالمي.

كما يبدو، الواقع معقد جداً، والتناقضات على أشدها، واحتمالية اندلاع حرب مدمرة قائمة في أي لحظة. والانطلاق من «الصفر» في ظل هذه الظروف الحساسة، والتي يمكن اعتبارها مصيرية إلى حد كبير، قد يحمل مخاطر جسيمة على المدى البعيد في حال لم تكتمل أو تنجح العملية. في هذه الحالة، يشكل الأمر تحدياً كبيراً، بل مغامرة جسيمة – كما يراها الكثيرون – لأوجلان كقائد سياسي ولمشروع الأوجلانية ككل.

الديمقراطية ستغدو المرجعية الأساسية التي تستند إليها مجمل القوى السياسية في تركيا، والهوية الجامعة التي تربط مكونات الأمة التركية على تنوعها. وبذلك، ستتقدم العملية السياسية نحو تجسيد «الجمهورية الديمقراطية» بمفهوم الدولة التركية، أو «الأمة الديمقراطية» كما يصوّرها أوجلان، بخطى تدريجية عملية وملموسة

لا شك أن أوجلان يمتلك القدرة على تقديم إجابات لهذه الأسئلة والتعامل معها نظرياً وعملياً. فقد دخل في هذه المفاوضات مع الدولة بصفته صاحب رؤية ومشروع سياسي متكامل، يتيح له خوض هذا التحدي ضمن إطار الشروط العامة؛ أي الفضاء السياسي الديمقراطي، التي توافق عليها الطرفان كأساس لعرض مشروعه.

فأدوات التأسيس ووسائل الفعل والدفاع السياسي عن المجتمع، وفقاً لمفاهيم أوجلان، تقوم على عقد وبناء تحالفات مع كافة القوى الديمقراطية الساعية إلى الحرية والعدالة الاجتماعية على صعيد صعيد الأمة، وتشكيل الكمونات كمؤسسات اجتماعية واقتصادية وسياسية ديمقراطية على صعيد المجتمع من القاع. تحقيق ذلك يتطلب جهوداً جبارة بدون شك.

نموذج دم بارتي، من حيث الشكل والنظرية، يمكن أن يكون النواة، التي تتشكل حولها الكتلة الديمقراطية المجتمعية على على مستوى تركيا. لكن من حيث المحتوى والتطبيق العملي، لا بد من إجراء تغيير بنيوي على هذا النموذج، سواء من ناحية التركيب أو الخطاب. رغم أن نموذج دم بارتي الحالي يبدو متعدداً وديمقراطياً، إلا أن هويته الكردية هي الغالبة من حيث العدد والخطاب السائد.

فتبني الهيكل النضالي، المراد تطويره، خطاباً ديمقراطياً وتعددياً واجتماعياً إيكولوجياً وتحررياً جنسياً، على مستوى الأمة التركية كلها، مع ترجمته عملياً بشكل ديمقراطي حقيقي بعيداً عن منطق التوصيات والإملاءات الحزبية الضيقة، يشكل خطوة مهمة على طريق الإصلاح. إلى جانب ذلك، إزالة «تسمية الإرهاب» عن الفعل السياسي الكردي رسمياً، ومسح صفة «الكردي العدو» من وعي ومخيلة المجتمع التركي، كأحد أهم الموارد الأيديولوجية التي تغذي معظم القوى والأحزاب القومية التركية، سواء الإسلامية أو الليبرالية، في عملية التعبئة والتنظيم للوصول إلى السلطة، سيساهمان بشكل كبير في جذب واستقطاب كل تلك القوى المؤمنة بالديمقراطية المجتمعية، وتشجيعها على الالتفاف حول هذه النواة لتشكيل كتلة ديمقراطية تعددية حقيقية. 

من جهة أخرى، من المرجّح أن يدفع هذا التحوّل الكتلة القومية التركية إلى إعادة النظر في خطابها السياسي ومراجعة بروفايلها الأيديولوجي، بهدف التكيّف مع الشروط الجديدة وضمان البقاء والاستمرار في المشهد السياسي. فمع تراجع فاعلية ورقة «الإرهاب» و«العدو الكردي المصطنع» كمحرك للتعبئة السياسية، وغياب إمكانية الاستمرار في استثمارها كما في السابق، ستجد هذه القوى نفسها مضطرة لاعتماد خطاب بديل، تتخذ فيه من الديمقراطية كحد أدنى للقاعدة الشرعية. وقد بدأت ملامح هذا التحول فعلياً مع قبول دولت باهجلي، الذي كان يمثل لعقود التيار القومي التركي الأكثر تطرفاً، بمبادرة السلام وتبنّيه لها علناً من موقعه داخل الدولة. وتجلّى ذلك بوضوح أكبر في خطبه الأخيرة، التي ركّز فيها على مفاهيم مثل الوطنية بدلاً عن القومية العرقية، والأخوّة بدلاً عن التركياتية، ما يعكس تحوّله التدريجي نحو مفهوم «الوطنية الديمقراطية» كما يُفهم في السياق السياسي المعاصر.

وينطبق الأمر ذاته على الكتلة الإسلامية السنية التركية المحافظة، بقيادة حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان. إذ إن معالجة التناقضات والمشكلات القومية مع الكرد من خلال قبول السلام معهم، وشرعنة نضالهم السياسي ضمن إطار ديمقراطي حقيقي، إلى جانب تسوية التوترات الدينية، خاصة مع الطائفة العلوية، عبر تبنّي مبدأ «احترام الهويات» كأحد الأسس الجوهرية للمجتمع الديمقراطي، سيؤدي إلى فقدان هذه الكتلة لأهم أدواتها الخطابية التي كانت تستخدمها في الصراع السياسي. ونتيجة لذلك، يجبرها سياسياً على إعادة صياغة خطابها بما يعكس رؤية إسلامية لا تكتفي بالاعتدال، بل تقوم على الديمقراطية وقبول الآخر المختلف. وحده هذا التحول من شأنه أن يمكّنها من استقطاب شرائح واسعة من المجتمع، كالمسلمين الكرد السنة، والعلويين من الكرد والأتراك والعرب، والذين يشكلون مجتمعين ما يقارب أو يفوق نصف سكان تركيا. أما دون هذا التغيير، فسيبقى حضور هذه الكتلة وتأثيرها السياسي محدوداً.

وعليه، فإن الديمقراطية ستغدو المرجعية الأساسية التي تستند إليها مجمل القوى السياسية في تركيا، والهوية الجامعة التي تربط مكونات الأمة التركية على تنوعها. وبذلك، ستتقدم العملية السياسية نحو تجسيد «الجمهورية الديمقراطية» بمفهوم الدولة التركية، أو «الأمة الديمقراطية» كما يصوّرها أوجلان، بخطى تدريجية عملية وملموسة.

أما الصراع السياسي حول المشروع والثقافة المهيمنة، بمفهوم غرامشي، فسيتمحور بوجه عام بين ثلاث كتل رئيسية تُشكّل المشهد السياسي التركي: الكتلة الوطنية الديمقراطية، والكتلة الإسلامية الديمقراطية، والكتلة المجتمعية الديمقراطية. وسيتمثل العامل الحاسم في هذا الصراع على الهيمنة في كيفية تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة، باعتبارها القضية الجوهرية الثانية بعد الديمقراطية في تركيا.

في هذا السياق، سيكون التركيز الكتلة المجتمعية الديمقراطية منصبّاً بالدرجة الأولى على تأسيس الكومونات، والتعاونيات، والبلديات، وتفعيلها ضمن نموذج ديمقراطي أفقي موسّع، باعتبارها مشروعاً بديلاً، وأداة استراتيجية للأوجلانية في «الحرب على المواقع» داخل بنى الدولة.

لكن، يبقى التساؤل مطروحاً: هل يمكن الوصول إلى الحقوق الكردية الجماعية وهل يمكن أن تتحول الكونفدرالية الديمقراطية كمشروع عالمي إلى «ثقافة مهيمنة» تحت هذه الظروف؟ الجواب: إن أوجلان سيشقّ طريقه نحو ذلك، إذا ما تحققت شروط المجتمع الديمقراطي!

 

شيراز حمي: كاتب ومختص في العلاقات الدولية، حاصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة هامبورغ في ألمانيا.

 

من الثورة إلى المجتمع الديمقراطي: أوجلان ما بعد العمال الكردستاني (1)