مرحلة بينية حاسمة في سوريا… هل تلعب القوى الديمقراطية دورها؟

نورهات حفتارو 

في سوريا، تتداخل وتتصارع مسارات عدة. أيديولوجياً، تتبنى «سلطات دمشق» الانتقالية بقيادة أحمد الشرع نهجاً يمزج بين «الأصولية الدينية» و«الحوكمة» و«السوق الحرة». في المقابل، تتبنى قوات سوريا الديمقراطية نموذج «الحكم المحلي والديمقراطية». في الوقت ذاته، تتخوف قوى وطوائف عديدة، مثل الدروز والعلويين، من المركزية المتشددة و«الطائفية في الحكم»، وترى في اللامركزية والفيدرالية حلاً عملياً لصون أمن مجتمعاتها.

تتقاطع هذه الرؤى مع مصالح دول إقليمية وقوى عالمية في سوريا. ويبدو أن تركيا وبريطانيا تبديان دعماً غير مشروط لنموذج «الدولة المركزية الممزوجة بأيديولوجيا دينية ونيوليبرالية متشددة». تشاركهما في ذلك بعض دول الخليج العربي، بشرط نزع التطرف عن «هيئة تحرير الشام». في المقابل، ما زالت إسرائيل – رغم جولات المفاوضات بينها وبين دمشق – غير حاسمة في دعمها لنموذج مركزي في سوريا، إذ ترى في التفكيك خياراً أكثر تحقيقاً لمصالحها.

في ظل هذه الفوضى، ومع إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن رفع العقوبات عن سوريا، والانخراط الغربي والعربي الدبلوماسي مع سلطات دمشق الانتقالية، وفشل «هيئة تحرير الشام» في إدارة الدولة واستيعاب التنوع السوري، تظهر أمام القوى الديمقراطية فرصة تاريخية للمشاركة في إعادة تشكيل الواقع السوري.

الكتلة الديمقراطية هي إطار جامع يشمل جميع القوى السياسية الديمقراطية، والأفراد، والأكاديميين، وممثلي الهويات الثقافية والطائفية والدينية المتعددة، والطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة، إلى جانب المرأة والشباب. وهي بالفعل تشكل القاعدة الاجتماعية الأوسع في سوريا

الكتلة الديمقراطية الثالثة

تاريخياً، تصارعت قوى قوموية وإسلاموية وديمقراطية، من اليمين والوسط واليسار، على الحكم في سوريا. وشاركت القوى الديمقراطية في الحياة البرلمانية والسياسية، وساهمت في تعزيز المجتمع المدني من خلال النقابات والجمعيات. غير أن الحياة السياسية بدأت بالتصحّر منذ خمسينيات القرن الماضي، نتيجة الانقلابات المتتالية، ومن ثم الهيمنة المطلقة لحزب البعث على الدولة والمجتمع. وقد أدّت سياسات الأسد الأب والابن، القائمة على القمع الأمني عبر الأجهزة الأمنية، والاستيعاب السياسي من خلال «الجبهة الوطنية التقدمية»، إلى شلّ تأثير القوى السياسية الديمقراطية، وحتى الليبرالية، بشكل شبه كامل.

وبعد سقوط الأسد، وحتى تاريخ كتابة هذه المقالة، فشلت «الحكومة الانتقالية» بقيادة «هيئة تحرير الشام» في إدارة التنوع السوري، وإعادة بناء أجهزة الدولة، وتحقيق أدنى مستويات الاستقرار الأمني والاقتصادي. على العكس تماماً، تشهد سوريا تصعيداً غير مسبوق في خطاب الكراهية، والانغلاق الهوياتي، والانفلات الأمني، ووقوع مجازر ذات طابع طائفي، في ظل غياب تام لمؤسسات الدولة والقانون وآليات العدالة الانتقالية.

تشكل كل هذه الوقائع والتطورات فرصة للكتلة الديمقراطية لتنظيم نفسها والمشاركة الفعلية في إعادة بناء الدولة، وتنظيم المجتمعات على المستويين المحلي والوطني، وطرح خارطة طريق شاملة لإدارة المرحلة الانتقالية وتنفيذها.

في ضوء ما تقدم، من هي الكتلة الديمقراطية الثالثة؟ من يمثلون؟ ومن هم حاملو هذه الكتلة؟

الكتلة الديمقراطية، هي الكتلة التي تتوافق على مبادئ عامة، مثل الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين الجنسين، والمواطنة الدستورية المتساوية، بالإضافة إلى احترام هويات المجتمع وطبقاته ومعتقداته، والاعتراف بالتنوع السوري. وتؤمن بدور المجتمعات في تنظيم شؤونها ذاتياً على المستويات الإدارية والاقتصادية والسياسية، من خلال مؤسسات المجتمع المدني كالجمعيات، والهيئات، والمنظمات، والنقابات، دون ترك الساحة الاجتماعية للمنظمات غير الحكومية التي تستغل بؤس الناس لجلب التمويل الخارجي، أو للقطاعين العام والخاص فقط.

تضم هذه الكتلة جميع القوى السياسية ذات التوجه الديمقراطي، داخل سوريا وخارجها، بغض النظر عن حجمها أو مدى انتشارها. وتشمل تيارات متنوعة من خلفيات ليبرالية، وقومية، وإسلامية معتدلة، وعلمانية، توحدها رؤية ديمقراطية مشتركة. كما تشمل أفراداً وأكاديميين وممثلين عن هويات ثقافية وطائفية ودينية متعددة، مثل السنة، والمسيحيين، والدروز، والكرد، والسريان\الآشوريين والعلويين، إلى جانب مختلف الطبقات الاجتماعية لاسيما الفقيرة والمهمشة (التي تشكل أكثر من 90% من المجتمع السوري)، والمرأة، والشباب، والقبائل والعشائر. وتشكل هذه الفئات مجتمعة قاعدة اجتماعية واسعة تمتد عبر المجتمع السوري.

«الكتلة الديمقراطية» ليست كياناً معارضاً. على العكس، هي حاجة عملية لطرح منظور جديد وعملي لحل القضايا الاقتصادية والمعيشية، ومعالجة الأزمات السياسية والهوياتية المزمنة، والمشاركة الفاعلة في بناء الدولة والمجتمع

إشكالية حامل المشروع

خلال سنوات الثورة السورية، فشلت القوى الديمقراطية بشكل ذريع في توحيد جهودها السياسية والمشاركة الفعلية في قيادة التغيير. ورغم التعقيدات التي مرت بها سوريا في هذه المرحلة، إلا أن «ثورة الحرية والكرامة» اختُطفت بشكل وحشي من قبل التيارات الإسلاموية، وتم تمييعها من قبل المنظمات غير الحكومية، مما زاد الأمر تعقيداً مع التدخلات الإقليمية والدولية. وبهذا، تحولت سوريا إلى بقعة جغرافية منزوعة السيادة، مُورست فيها أبشع الحروب، وظهرت فيها أكثر التنظيمات تطرفاً مثل «داعش».

وتتحمل القوى الديمقراطية مسؤولية كبيرة في عدم قدرتها على تشكيل قوة سياسية، واجتماعية، وحتى عسكرية قادرة على تمثيل اللحظة التأسيسية في الثورة السورية، وترجمة مطالب السوريين في «الحرية والكرامة».

منذ عام 2011، ظلّت مبادرات هذه القوى فردية ومبعثرة، واقتصر نشاطها على إصدار البيانات وتوثيق الانتهاكات، دون أن تمتلك برنامجاً واضحاً أو خارطة طريق عملية للخروج من الأزمة. كما فشلت في بناء تحالفات متماسكة، نتيجة التناقضات الشخصية بين قيادات أحزابها وتياراتها. ولم تتمكن كذلك من تقديم «شخصية كاريزماتية» تحظى بإجماع القوى الديمقراطية وتلتفّ حولها.

في المقابل، لم تتمكن «قوات سوريا الديمقراطية» و«الإدارة الذاتية» من التحول إلى قوة وطنية ديمقراطية جامعة تتبنى الثورة السورية، ضمن إطار ما يُعرف بـ«الطريق الثالث». ويعود ذلك إلى عدة عوامل، من بينها تأثر بعض مكوناتها بخلفيات أيديولوجية ذات طابع قومي، وغموض في الرؤية السياسية الشاملة. كما أن التركيز الكبير على مواجهة تنظيم «داعش»، والانشغال بتفاصيل السياسات اليومية، إلى جانب الضغوط العسكرية والسياسية المتواصلة، خاصة من الجانب التركي، أسهمت في تقييد دورها الوطني الأوسع، رغم ما حققته من إنجازات على المستوى الأمني والإداري والسياسي في شمال وشرق سوريا.

ورغم هذه التحديات، يمكن للقوى الديمقراطية، وعلى رأسها «مجلس سوريا الديمقراطية»، تجاوز أخطاء الماضي وتحديث أدوات النضال السياسي، لتلعب دور حامل مشروع الكتلة الديمقراطية، وتبني أوسع ائتلاف ممكن، والمشاركة في إدارة المرحلة الانتقالية والتحضير لما بعدها.

ومن المهم التنويه إلى أن «الكتلة الديمقراطية» ليست كياناً معارضاً. على العكس، هي حاجة عملية لطرح منظور جديد وعملي لحل القضايا الاقتصادية والمعيشية، ومعالجة الأزمات السياسية والهوياتية المزمنة، والمشاركة الفاعلة في بناء الدولة والمجتمع.

التجربة السورية تتجاوز ثنائية «التفاؤل-التشاؤم» التقليدية. واقعها المرعب يأخذنا إلى مستوى أعمق من الوصف، يمكن تسميته بـ«اليأس». لكن هذا اليأس لا يعني الاستسلام أو التطبيع مع الواقع، بل هو دعوة للتمرد عليه وإعادة تشكيله. وهذا بالتحديد الوظيفة الملحة لـ«القوى الديمقراطية»، لتقوم من رماد اليأس وتشارك في عملية البناء

بردايم جديد

ضمن هذا السياق، تحتاج القوى الديمقراطية إلى تغيير شامل على مستوى الفكر والقول والعمل. بمعنى آخر، هي بحاجة إلى «نموذج فكري جديد» أو «بردايم جديد»، يواكب متطلبات المرحلة الجديدة، ويتماشى مع وتيرة المستجدات العملية المتسارعة.

ولعل أبرز درس من دروس التاريخ هو أن الواقع غير مكتمل، بل يتشكل نتيجة نضالات وصراعات متعددة بين مراكز وقوى اجتماعية مختلفة. فمن سيمثل مصالح أهالينا في المخيمات والمهجرين؟ ومن سيحمل هموم الطبقات والشرائح التي أهلكها الفقر في القرى والمدن السورية؟ ومن سيمثل الهويات التي تعاني من القلق الوجودي؟ من سيمثل المرأة والشباب؟ من سيمثل الأديان والمذاهب المتنوعة؟ من سيمثل السلام والديمقراطية؟ ومن سيحمل إرث «أبو ذر الغفاري» والإسلام الاجتماعي؟

الكتلة الديمقراطية هي حاجة عملية وملحة لتكون صوت السوريين الحقيقي.

وبناءً على ما سبق، فإن «النموذج الجديد» يدعو إلى إعادة تقييم شاملة، وبناء سردية تاريخية متماسكة، وخارطة طريق واضحة، مع برامج سياسية واقتصادية وإدارية تمثل مصالح الغالبية العظمى من السوريين. كما يدعو إلى بناء الائتلافات والتحالفات، والإعلان عن جسم سياسي للكتلة الديمقراطية، كحركة واسعة تعمل سياسياً، وتشارك في البناء الإداري والاقتصادي عبر برامج فعالة.

ومن غير المجدي أن تعلق هذه الكتلة آمالها فقط على الدعم الدولي، بل يجب أن تعمل من الداخل والخارج، وتنظم المجتمعات السورية، وتبني أوسع ائتلاف وتحالف لقيادة عملية «التحول الديمقراطي».

التجربة السورية تتجاوز ثنائية «التفاؤل-التشاؤم» التقليدية. واقعها المرعب يأخذنا إلى مستوى أعمق من الوصف، يمكن تسميته بـ«اليأس». لكن هذا اليأس لا يعني الاستسلام أو التطبيع مع الواقع، بل هو دعوة للتمرد عليه وإعادة تشكيله. وهذا بالتحديد الوظيفة الملحة لـ«القوى الديمقراطية»، لتقوم من رماد اليأس وتشارك في عملية البناء.

 

نورهات حفتارو: كاتب يهتم بالقضايا السياسية والعلاقات الدولية في الشرق الأوسط وسوريا.