شيراز حمي
في هذا الجزء الثاني من البحث، الذي يأتي ضمن دراسة من ثلاثة أجزاء بعنوان «العوامل التي مكّنت هيئة تحرير الشام من السيطرة على دمشق»، أتناول مراحل نشوء وتطور هيئة التحرير الشام، بالإضافة إلى التحديات البنيوية الداخلية والضغوط الميدانية والخارجية التي واجهتها، وذلك حتى ما قبل انطلاق معركة «ردع العدوان».
القاعدة في سوريا: صعود جبهة النصرة
عقب الغزو الأميركي للعراق، عمد النظام السوري إلى تسهيل عبور الجهاديين إلى الأراضي العراقية، مُوفّراً لهم ممرّاً آمناً. وقد سعى الرئيس بشار الأسد من خلال ذلك إلى تحقيق مكاسب استراتيجية، تمكّنه من استنزاف القوات الأميركية عبر أطراف ثالثة، دون التورط المباشر في الصراع.
بين عامي 2005 و2008، شهدت العلاقة بين الطرفين تحوّلاً نوعيّاً، إذ تطلّبت الحاجة الأميركية إلى استقرار العراق نوعاً من التعاون مع النظام السوري. واستغل الأسد هذا الظرف لكسر عزلته الدولية، من خلال التضييق على حركة الجهاديين، وتشديد الرقابة الحدودية، والتعاون الاستخباراتي مع واشنطن، ما أدى إلى تصدع العلاقة بين تنظيم القاعدة والنظام. ففي نظر الجهاديين، لم يعد الأسد «عدوًا ضمنيّاً» بل «عدوّاً صريحاً»، وقد تُوّج هذا التوتر بتنفيذ القاعدة لهجوم انتحاري استهدف مقراً أمنياً في دمشق بتاريخ 27 أيلول/سبتمبر 2008.
تجربة القاعدة في العراق تركت بصمة عميقة على الحركة الجهادية السورية. فبحسب منتديات جهادية عام 2007، شكّل السوريون نحو 13% من المقاتلين الأجانب في العراق.[1] وبعد انحسار المد الجهادي هناك، عاد كثير منهم إلى سوريا، ليشكّلوا نواة جيل جديد من الجهاديين الذين سيكون لهم دور بارز في الثورة السورية لاحقاً.
مع اندلاع الثورات العربية أواخر 2010، ظهر نقاش داخل القاعدة والتيار السلفي الجهادي بشأن شكل التنظيم: مركزي أم لامركزي؟ وهل يجب التركيز على التعبئة الشعبية أم على النخبوية؟ فقد أظهرت الاحتجاجات السلمية في تونس ومصر واليمن إمكانية التغيير من دون اللجوء إلى العنف، مما أضعف جاذبية الاستراتيجيات المسلحة ضد «الأنظمة الكافرة».
في البداية، تعاملت الجماعات الجهادية بتحفّظ مع الثورة السورية التي انطلقت في مارس 2011، واعتبرتها حراكاً شعبياً لا يتماشى مع أيديولوجيتها. إلا أن تصاعد العسكرة غيّر المشهد، ومنح الجهاديين فرصة للعب دور فعّال، فتحوّلوا من عناصر غير مرحّب بها إلى مقاتلين فاعلين في المعركة ضد النظام، وهو ما مثّل نقطة تحوّل حاسمة.
في هذا السياق، أوفد أبو بكر البغدادي في عام 2011 «أبا محمد الجولاني» برفقة سبعة جهاديين عراقيين وسوريين إلى سوريا لتأسيس فرع للقاعدة هناك. وبسبب عدم الثقة بقدرة الجولاني على إدارة المشروع بمفرده، أسندت الخطط العسكرية إلى الضابط العراقي السابق سمير عبد المحمد العبيدي (المعروف بـ«حاجي بكر»)، فيما تولّى محمد العدناني، المتحدث المستقبلي باسم تنظيم الدولة الإسلامية، الدعم التنظيمي.
بعد الإفراج عن عدد من المعتقلين الإسلاميين من سجن صيدنايا في مايو 2011، التقى الجولاني بعضهم ممن كان لهم ارتباط سابق بالقاعدة، وشكّلوا لاحقاً العمود الفقري لجبهة النصرة. ومع تدفّق الجهاديين الأجانب أواخر العام نفسه، تسارعت وتيرة نمو التنظيم.
وفي 24 يناير 2012، أعلن الجولاني، في تسجيل صوتي بعنوان «خذوا السلاح ولا تكونوا ضعفاء»، عن تأسيس «جبهة النصرة»، مؤكداً أن هدفها هو مناصرة الشعب السوري في قتال «النظام الكافر الطاغوتي»، والعمل على إقامة حكم الشريعة. كما هاجم الأنظمة العربية، والولايات المتحدة، وإيران، ودعا الجهاديين من داخل سوريا وخارجها للانضمام إلى صفوفه[2].
اعتمدت قيادة النصرة على أفكار أبي مصعب السوري، التي دعت إلى إنشاء خلايا مستقلة بدل التنظيمات التقليدية، وأطلقت عليها اسم «ألوية المقاومة الإسلامية العالمية». ولذلك، لم تُشر الجبهة في بيانها التأسيسي إلى ارتباط رسمي بأي جهة خارجية، وظهرت كائتلاف من خلايا عسكرية متقاربة أيديولوجياً، منظّمة عسكرياً ضمن هيكل هرمي: مجموعات صغيرة بقيادة «أمراء»، ضمن وحدات كبرى تحت إمرة «أمراء ميدانيين»، وأمراء إقليم ذات صلاحيات واسعة، فيما تركزت السلطة العليا في «مجلس شورى المجاهدين» الذي ضم قادة بارزين، من بينهم الجولاني والظواهري. وكانت تقتصر عضوية التنظيم على مسارين رئيسيين: إما عبر توصية من عضو قديم يعقبها تدريب ديني وعسكري لمدة شهرين، أو من خلال اختيار عناصر متميزة من معسكرات خاصة.[3]
مع بداية عام 2012، انخرطت جبهة النصرة في القتال إلى جانب الجيش السوري الحر، وشاركت في معظم الجبهات الريفية حول حلب وإدلب، حيث حازت على احترام المقاتلين لخبرتها وصمودها. وقد حققت تقدماً ميدانياً ملحوظاً باستخدام الانتحاريين، لا سيما في السيارات المفخخة. وكان تعاونها مع الجيش الحر نقطة فاصلة، إذ لبّت الجبهة الطلبات التكتيكية، بتوفير وحدات انتحارية ومركبات مفخخة، بينما وفّرت فصائل الجيش الحر غطاءً نارياً. ومع ازدياد الخسائر في صفوف النظام، اكتسبت النصرة سمعة كبيرة، وصلت إلى حد أن بعض العمليات كانت تُلغى إذا رفضت المشاركة. وبحلول أواخر 2012، بدأت النصرة تفرض شروطاً على العمليات وتقاسم الغنائم.[4]
شهدت جبهة النصرة توسعاً جغرافياً سريعاً، مع انضمام مقاتلين جدد من السوريين والأجانب، واستهداف قواعد عسكرية حسّاسة، والحصول على كميات ضخمة من الأسلحة والذخائر والمركبات. وبحلول مطلع 2013، سيطرت على مدينة الرقة، ونحو 80% من دير الزور، ومساحات شاسعة من حلب وإدلب وجبال غرب حماة ومناطق قرب الساحل. كما أحكمت سيطرتها على طرق الإمداد بين حلب والحدود التركية، واستولت على سدّ الطبقة ومساحات من حقول النفط جنوب شرق منبج، ما عزّز من مواردها المالية والعسكرية.
في بداياتها، امتنعت الجبهة عن الانخراط مع المدنيين، لكنها اضطرت لاحقاً إلى تقديم خدمات أساسية، مثل توزيع الغاز والوقود والطحين، وتنظيم المرور. وقد موّلت عملياتها من دعم الدولة الإسلامية في العراق، خصوصاً من أبو بكر البغدادي، بالإضافة إلى تبرعات من شبكات جهادية وأثرياء في الخليج. وكان الجولاني يفضّل تعيين الأجانب في المناصب العليا لضمان استمرار التمويل وتهميش القيادات السورية المنافسة. رغم ذلك، بقيت الغنائم الميدانية المصدر الرئيسي للتمويل.
وبحلول أبريل 2013، بلغ عدد مقاتلي جبهة النصرة أكثر من 5,000 عنصر، نحو 70% منهم أجانب في مواقع القيادة، فيما شكّل السوريون ما بين 30 إلى 35% من العدد الكلي[5].
نظرًا لارتباطها بتنظيم القاعدة في العراق، صنّفت الولايات المتحدة الجبهة في 10 ديسمبر 2012 منظمة إرهابية، ورصدت مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن قادتها. ورغم ذلك، دافع بعض رموز المعارضة السورية في الخارج عن الجبهة، معتبرين إياها جزءاً أساسياً من الثورة. فقد انتقد كل من جورج صبرا ومعاذ الخطيب القرار الأميركي، مؤكدين أن أولوية السوريين هي إسقاط الأسد، فيما رأى الخطيب أن الجهاد ضد النظام القمعي «يتماشى مع حقوق الإنسان».[6] أما رياض الأسعد، مؤسس الجيش السوري الحر، فدعا إلى رفع تصنيف النصرة كمنظمة إرهابية، معتبراً إياها «إخوة لنا»، مشيداً بقدراتها القتالية.[7]
جبهة النصرة بين عامي 2013–2016: الولاء للقاعدة وتحديات التكيّف
واجهت جبهة النصرة بين عامي 2013 و2016 جملة من التحديات المعقّدة، تمثلت في ضغوط مستمرة لإجراء تغييرات هيكلية داخلية، إلى جانب صراعات وانشقاقات وخلافات مع التنظيم الأم في العراق، فضلاً عن التوترات مع عدد من الفصائل المسلحة المعارضة الأخرى داخل سوريا.
في 9 نيسان/أبريل 2013، أعلن أبو بكر البغدادي تأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ككيان موحّد بين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق (ISI) وجبهة النصرة. إلا أن الجبهة، ممثلة بقائدها أبو محمد الجولاني، رفضت الاندماج في اليوم التالي، مؤكدة أن قراراً كهذا لا يمكن اتخاذه بشكل أحادي. وبهذا الموقف، كشفت النصرة صراحة عن علاقتها المباشرة بتنظيم القاعدة، إذ أعلن الجولاني تجديد البيعة لأيمن الظواهري، زعيم القاعدة، وشدد على أن موقفه ينبع من «اعتبارات شرعية» ومراعاة «الواقع السياسي في سوريا».[8]
بدوره، حاول الظواهري التوسط بين الطرفين، داعياً البغدادي للعودة إلى العراق ومنح النصرة استقلالاً أكبر في إدارة شؤونها، لكن البغدادي رفض ذلك، معلناً القطيعة مع القاعدة. وأدى هذا الخلاف إلى انقسام حاد داخل جبهة النصرة، حيث انشق العديد من المقاتلين الأجانب وانضموا إلى تنظيم الدولة الإسلامية، مما أسفر عن تراجع نسبة القادة غير السوريين من 70% إلى نحو 40%.[9]
تبِع ذلك خسائر ميدانية ملموسة، إذ اضطرت النصرة إلى الانسحاب من مناطق رئيسية مثل محافظة حلب، في حين فرض تنظيم الدولة الإسلامية سيطرته على الرقة ودير الزور، وأقام فيها «إمارات» أجبر فيها السكان على مبايعة البغدادي. أما النصرة، فقد احتفظت بوجودها في إدلب وبعض مناطق جنوب سوريا ومحيط العاصمة دمشق، لكنها فقدت موارد حيوية كحقول النفط شرقي البلاد، ما أثر سلباً على إمكانياتها المالية والعسكرية.
في خضم ذلك، بدأت فصائل إسلامية سورية أخرى تتجه نحو خطاب وطني أكثر اعتدالاً، ونأت بنفسها عن تنظيم القاعدة. وفي تموز/يوليو 2014، أعلنت هذه الفصائل، بالتعاون مع «الجبهة الإسلامية السورية»، ما سُمي بـ«ميثاق الشرف الثوري»، والذي نص على احترام القانون الدولي، وضمان الحقوق المدنية لكافة المكوّنات السورية، ورفض أي تدخل خارجي في تحديد شكل الدولة المستقبلية.[10]
قوبل هذا الميثاق برفض قاطع من جبهة النصرة، التي هددت بالتصدي لأي جهة تستهدف المقاتلين الأجانب أو تتبنى خطاباً يتعارض مع رؤيتها للدولة الإسلامية. واعتبرت النصرة أن الميثاق يقدّم «المصالح الوطنية» على «الأخوة الدينية»، ويخاطب الغرب أكثر مما يعكس تطلعات المقاتلين على الأرض.[11] وقد شكّل هذا التوتر بداية شرخ واضح بين الخط السلفي-الجهادي الموالي للقاعدة، والتيارات الإسلامية السورية ذات الطابع الوطني.
بعد فترة وجيزة، وفي أيلول/سبتمبر 2014، قُتل 45 قيادياً من «حركة أحرار الشام» خلال اجتماع داخلي، إثر تفجير غامض، ورجّحت أصابع الاتهام تورط جبهة النصرة. وبصرف النظر عن المسؤولية المباشرة، فقد استفادت النصرة من هذا الحدث، إذ بدأت في تعزيز نفوذها عبر مهاجمة جماعات أخرى مدعومة من الخارج. ففي خريف 2014، تمكّنت من طرد «جبهة ثوار سوريا» من شمال البلاد، كما واجهت «حركة حزم» التي كانت تحصل على دعم من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، واستولت على أسلحتها، بما في ذلك صواريخ TOW المضادة للدبابات. كما هاجمت «الفرقة 30»، المدعومة من وزارة الدفاع الأمريكية، واستولت على معدّاتها.
ورغم هذه الصراعات، ظلت جبهة النصرة لاعباً فاعلاً في التحالفات العسكرية ضد النظام السوري. ففي آذار/مارس 2015، شاركت في تأسيس «جيش الفتح»، وهو تحالف عسكري ضم فصائل جهادية وإسلامية، أبرزها «أحرار الشام». وقد حقق التحالف نجاحاً استراتيجياً سريعاً، إذ سيطر على مدينة إدلب وأريحا والمناطق المحيطة بها. تولى التحالف إدارة تلك المناطق دون أن يؤدي ذلك إلى وحدة تنظيمية كاملة بين الفصائل.
وفي وقت لاحق من العام ذاته، ساهمت جبهة النصرة في تأسيس تحالف «فتح حلب»، الذي ضم أكثر من 20 فصيلاً من التوجهين الجهادي والإسلامي. وقد أحرز هذا التحالف تقدماً في شمال وغرب حلب، إلا أنه لم يتمكن من إخراج قوات النظام بالكامل من المدينة.
هيئة تحرير الشام: التنافس وصراع البقاء
رغم محاولاتها الانخراط أحياناً في العمل المدني والدخول في تحالفات عسكرية، بقيت جبهة النصرة معزولة نسبياً داخل المشهد السوري المعارض، نتيجة ارتباطها الصريح بتنظيم القاعدة. ونتيجة لهذه الصبغة الجهادية العابرة للحدود، تجنّبت فصائل المعارضة المسلحة الأخرى، خاصة المنضوية تحت لواء «الجيش السوري الحر»، إقامة علاقات وثيقة معها، خوفاً من تصنيفها كتنظيمات إرهابية، وهو ما كان من شأنه تقويض الدعم الدولي الذي تعتمد عليه تلك الفصائل، فضلاً عن تعزيز رواية النظام السوري حول «محاربة الإرهاب».
ومع تكثيف الضربات الروسية اعتباراً من أواخر عام 2015، وما تبعها من انهيارات متسارعة للمعارضة، لا سيما بعد حصار وسقوط مدينة حلب في عام 2016، برزت أسئلة وجودية داخل جبهة النصرة بشأن جدوى استمرار ولائها لتنظيم القاعدة. وتزايدت حدة الجدل في يوليو 2016 مع انتشار تقارير عن عملية عسكرية أمريكية-روسية مشتركة ضد الجبهة. وفي 28 من الشهر ذاته، أعلنت الجبهة تغيير اسمها إلى «جبهة فتح الشام (JFS)» وانفصالها رسمياً عن تنظيم القاعدة. وفي أول ظهور علني له، صرح أبو محمد الجولاني أن هذه الخطوة تأتي في إطار حماية الكيان من الهجمات الخارجية، مع التأكيد على استمرار الهدف المتمثل في «إسقاط النظام» وتطبيق الشريعة الإسلامية في سوريا [12].
ورغم هذا الإعلان، لم يلقَ القرار قبولاً دولياً واسعاً؛ إذ ظل يُنظر إلى «جبهة فتح الشام» باعتبارها امتداداً لتنظيم القاعدة. وقد تأكد هذا الموقف خلال اتفاق كيري–لافروف في 9 سبتمبر 2016، حيث استُثني تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة فتح الشام من الهدنة، واتُّفِق على استهدافهما عسكرياً بشكل مشترك.[13] وفي أعقاب الهجوم الواسع الذي شنّته قوات النظام وحلفاؤه على مدينة حلب، انسحبت فصائل المعارضة إلى محافظة إدلب، في حين أعادت تركيا توجيه تركيز حلفائها نحو إعاقة توسع قوات سوريا الديمقراطية بدلاً من مواجهة النظام.
وفي نهاية عام 2016، أُعلن عن هدنة جديدة برعاية تركية–روسية، استثنت مجدداً الجماعات المصنفة إرهابية، بما في ذلك «جبهة فتح الشام».[14] وقد شكلت هذه التطورات تهديداً وجودياً للجبهة، خصوصاً مع انطلاق محادثات أستانا للسلام في مطلع عام 2017، بمشاركة النظام السوري والمعارضة، وتحت إشراف روسي–إيراني.[15] ورداً على هذا التهديد، اتبعت «جبهة فتح الشام» استراتيجية هجومية على مرحلتين: أولاً، استهدفت الفصائل التي شاركت في محادثات أستانا، مما أدى إلى تفكك بعضها، ودفع فصائل أخرى إلى الاندماج في «حركة أحرار الشام»،[16] ذات التوجه السلفي الوطني والتي لم تكن طرفاً مباشراً في المحادثات. ثانياً، عملت الجبهة على توحيد عدد من الجماعات الجهادية ذات الخلفية السلفية، مثل «حركة نور الدين الزنكي» و«أنصار الدين» و«جيش السنة»، تحت اسم جديد: هيئة تحرير الشام (HTS)، وذلك في 28 يناير 2017.
في المناطق الشمالية الغربية، بقيت «حركة أحرار الشام» المنافس الرئيسي لهيئة تحرير الشام. وبينما تبنّت تركيا المقاربة الروسية القائمة على التمييز بين الفصائل «المعتدلة» و«المتطرفة»، حرصت أحرار الشام على عدم الانخراط في أي تحالف قد يُفضي إلى تصنيفها كتنظيم إرهابي، مما قد يعزلها دولياً ويفتح الباب أمام استهدافها عسكرياً. كما رفضت الحركة الاندماج مع هيئة تحرير الشام، مخافة تغوّل الأخيرة على القرار السياسي والعسكري داخل التحالف.
في المقابل، رأت هيئة تحرير الشام ضرورة حسم الصراع مع أحرار الشام، لا سيما في ظل سيطرة الأخيرة على معبر باب الهوى الحدودي، الذي يُعد شرياناً اقتصادياً وإغاثياً حيوياً في الشمال السوري. وتحت ضغط الوقت وتزايد احتمالات التدخل التركي، شنت الهيئة هجوماً واسعاً على مواقع أحرار الشام، انتهى بسيطرتها على مدينة إدلب ومعبر باب الهوى بحلول نهاية يوليو 2017، لتصبح بذلك القوة المهيمنة على ما تبقى من مناطق المعارضة السورية حتى سقوط النظام نهاية عام 2024.
عقب انتصارها العسكري، شرعت هيئة تحرير الشام في توسيع نفوذها على المستوى المدني. فقد أنشأت ما عُرف بـ«إدارة الخدمات المدنية»، التي دمجت فيها المجالس المحلية والمؤسسات التي كانت سابقاً تابعة للمعارضة السورية في الخارج. ورغم الإبقاء على الهياكل القديمة شكلياً – حفاظاً على مصادر التمويل – إلا أنها فُرغت من مضمونها واستُبدلت بأجهزة تابعة للهيئة، تعمل خلف واجهة حكومة «تكنوقراطية» هدفها تقديم الهيئة كجهة تمثل «الثورة السورية».[17]
وإدراكاً منها لأهمية المساعدات الإنسانية، سَمحت الهيئة للمنظمات غير الحكومية الدولية بالعمل داخل إدلب بدرجة محدودة من الاستقلال، لتأمين الخدمات الأساسية. أما على المستوى الاقتصادي، فقد فرضت الهيئة سيطرة احتكارية على القطاعات الحيوية، بما في ذلك شبكات الاتصالات والكهرباء. كما أسّست «بنك الشام»، الذي تولى عمليات تحويل العملات من الليرة السورية إلى الليرة التركية، وحصل في عام 2018 على احتكار استيراد وبيع المنتجات النفطية من تركيا، ما عزّز من مصادر تمويل الهيئة وهيمنتها الاقتصادية.[18]
شيراز حمي: كاتب ومختص في العلاقات الدولية، حاصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة هامبورغ في ألمانيا.
المصادر:
[1] مصطفى، حمزة مصطفى. جبهة النصرة لأهل الشام: من التأسيس إلى الانقسام. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013
[2] نفس المصدر
[3] نفس المصدر
[4] نفس المصدر
[5] مناع، من فقه الدم إلى جهاد الغلبة، بيروت، بيسان للنشر، الطبعة الخامسة، أبريل 2025، ص 57.
[6] Al Jazeera (13.12.2012): „معارضة سوريا تنتقد وصم “النصرة” بالإرهاب “. URL: https://www.aljazeera.net/news/2012/12/13/%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D8%B6%D8%A9-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%AA%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%AF-%D9%88%D8%B5%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D8%B1%D8%A9 [15.05.2025]
[7] Roggio, Bill (30.03. 2013): Free Syrian Army commander praises Al Nusrah Front as ‘brothers’. In: The Long War Journal. URL: https://www.longwarjournal.org/archives/2013/03/free_syrian_army_com.php [15.05.2025]
[8] France 24 (10.04.2013): „جبهة النصرة في سوريا تبايع زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري“. URL: https://www.france24.com/ar/20130410-%D8%AC%D8%A8%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D8%A9-%D8%A3%D9%8A%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B8%D9%88%D8%A7%D9%87%D8%B1%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%A1-%D8%AA%D8%B3%D8%AC%D9%8A%D9%84 . [15.05.25]
[9] مناع، من فقه الدم إلى جهاد الغلبة، بيروت، بيسان للنشر، الطبعة الخامسة، أبريل 2025، ص 57.
[10] Al Jazeera (31.05.2014): „ “ميثاق الشرف” نقلة نوعية في مسيرة التيار الجهادي“. URL: https://www.aljazeera.net/opinions/2014/5/31/%D9%85%D9%8A%D8%AB%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%81-%D9%86%D9%82%D9%84%D8%A9-%D9%86%D9%88%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D8%B1 [15.05.2025]
[11] Al-Juneidi, Basel (2014, 20. Mai): „Dschabhat al-Nusra greift die Syrische Revolutionärehrenerklärung an“. Al-Arabiya. (Arabisch: باسل الجنيدي، “جبهة النصرة” تهاجم ميثاق الشرف الثوري السوري، العربية). URL: https://www.alarabiya.net/arab-and-world/syria/2014/05/20/-%D8%AC%D8%A8%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D8%B1%D8%A9-%D8%AA%D9%87%D8%A7%D8%AC%D9%85-%D9%85%D9%8A%D8%AB%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A [15.05.2025]
[12] Al Jazeera (28.07.2016): „جبهة النصرة تنفصل عن القاعدة وتغير اسمها“. URL: https://www.aljazeera.net/news/2016/7/28/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%8A%D8%B9%D9%84%D9%86-%D9%81%D9%83-%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D8%B7-%D8%AC%D8%A8%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D8%B1%D8%A9-%D8%B9%D9%86?utm_source=chatgpt.com [15.05.2025]
[13] Al Jazeera (10.09.2016): „أبرز نقاط الاتفاق الروسي الأميركي بشأن سوريا“.UTL: https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2016/9/10/%D8%A3%D8%A8%D8%B1%D8%B2-%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A?utm_source=chatgpt.com [15.05.2025]
[14] BBC (28.12.2016): “Syria conflict: Turkey and Russia ‘agree ceasefire plan’”. URL: https://www.bbc.com/news/world-middle-east-38449551 [15.05.2025]
[15] Syrian observatory for human rights (23.01.2017): “علوش يتحدث عن الهدنة في أستانا.. ووفد النظام “يستفز”. URL: https://www.syriahr.com/%d8%b9%d9%84%d9%88%d8%b4-%d9%8a%d8%aa%d8%ad%d8%af%d8%ab-%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%af%d9%86%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d8%b3%d8%aa%d8%a7%d9%86%d8%a7-%d9%88%d9%88%d9%81%d8%af-%d8%a7%d9%84/204154/ [15.05.2025]
[16] Syrian observatory for human rights (26.01.2017): “5 Factions join Ahrar al_Sham Islamic movement in the battle against Fateh al_Sham front”.URL: https://www.syriahr.com/en/59855/ [15.05.2025]
[17] Keser, A., & Fakhoury, F. (2022). Hay’at Tahrir Al-Sham (HTS) from an Insurgent Group to a Local Authority: Emergence.
[18] نفس المصدر
من أين بدأت «هيئة تحرير الشام»؟ (1)