جهاد حمي
«آمل أن نلتقي في جهود أممية واشتراكية مشتركة».
هذه الكلمات، التي خرجت من سجن إمرالي شديد الحراسة، جاءت على لسان عبد الله أوجلان، الذي يدخل عامه السادس والعشرين في العزلة، ضمن رسالة موجهة إلى اثنين من أبرز فلاسفة عصرنا: سلافوي جيجك وألان باديو. تعترف الرسالة بدعمهما الصريح لعملية السلام التي كان أوجلان قد شرع فيها مع الدولة التركية. على المستوى الظاهري، قد تبدو هذه الكلمات مجرد لفتة رمزية تضامنية بين سجين سياسي كردي واثنين من المفكرين الأوروبيين. لكنها تشير إلى ما هو أعمق من ذلك: مقاربة فلسفية تستند إلى التزام مشترك بالتحول الجذري.
بالنسبة للكثيرين، قد تبدو فكرة انشغال أوجلان بالفكر الفلسفي وسوسيولوجيا المجتمع التاريخي أمراً مفاجئاً. لكنه ليس سجيناً عادياً؛ فعلى الرغم من عقودٍ قضاها في عزلة قاسية، قرأ على نطاق واسع في الفلسفة، والتاريخ، والأنثروبولوجيا، والعلوم السياسية والطبيعية، وبلور نقداً شاملاً للعلم والسياسة في سياق الحداثة. تتجاوز إسهاماته المعرفة الوضعية المجزأة والنزعات الاختزالية، ساعياً إلى مقاربة كُلّية وتحررية للمعرفة.
في عدة مناسبات، عبّر جيجك عن إعجابه بفكر أوجلان، بل قرأ مقتطفاً من المجلد الرابع من مؤلف أوجلان «أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط»، الذي كُتب في السجن، وقدم تحليلاً مفصلاً تفاعل فيه بجدية مع أفكاره. وقد وصف كتابات أوجلان بأنها تشعّ بـ«جمال ميتافيزيقي»، مسلطاً الضوء على نقدها الحاد لنظام يُخفي الطاعة تحت قناع الفردانية. كما أبرز استعارة أوجلان «تقيؤ النظام» بوصفها نداءً قوياً للتحرر من البُنى الأيديولوجية التي نقبلها كأنها طبيعية.
رغم الاختلافات الفلسفية والسياسية بين أوجلان وباديو وجيجك، فإن ما يجمعهم يتجاوز مجرد الأساس الماركسي والهيغلي المشترك؛ إذ يوحّدهم هدف واحد: تخيّل بدائل للرأسمالية العالمية، هذا النظام الذي يرونه متجذراً في الاستغلال، والحروب، والانهيار البيئي.
يدافع جيجك وباديو عن «كونية ملموسة أو كامنة Concrete or Immanent Universality»، تنبثق من داخل النضالات الخاصة، بدلاً من أن تُفرض من الأعلى. الكونية، بهذا المعنى، ليست مثالاً ثابتاً، بل مبدأً مزعزعاً؛ فهي تُربك القواعد السائدة وتفتح المجال للتحوّل
إعادة التفكير في الكونية
أحد المفاهيم الأساسية التي تجمع بين هؤلاء المفكرين هو مفهوم «الكونية Universality»، المستند إلى قراءة جذرية وتحررية لفكر هيغل. غير أن هذا المفهوم تعرّض في العقود الأخيرة لانتقادات حادة، خصوصاً من تيارات ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار. إذ يرى النقّاد أن الكونية كثيراً ما تُخفي «مصالح الهيمنة»، وتفرض التماثل، وتقمع الاختلاف، مما يكرّس البُنى التوتاليتارية والإمبريالية. فعلى سبيل المثال، قد تبدو عبارة مثل «كلنا سوريون» شاملة، لكنها قد تُلغي هويات بعينها، كهوية الكرد. هذا النمط من الكونية يُعرف بـ«الكونية المجرّدة Abstract Universality».
لكن باديو وجيجك يريان أن هذا النقد يُخطئ الهدف؛ فهما يدافعان عن «كونية ملموسة أو كامنة Concrete or Immanent Universality»، تنبثق من داخل النضالات الخاصة، بدلاً من أن تُفرض من الأعلى. الكونية، بهذا المعنى، ليست مثالاً ثابتاً، بل مبدأً مزعزعاً؛ فهي تُربك القواعد السائدة وتفتح المجال للتحوّل.
بالنسبة إليهم، فإن الكونية كامنة داخل الخصوصيات؛ مبدأٌ تناقضيّ يمنع أيَّ كليةٍ اجتماعية من أن تنغلق على ذاتها بالكامل. إنّ «غياب Absence» الكونية لا يُعدّ دليلًا على فشلها، بل هو الفضاء الذي يُمكن من خلاله التعبير عن الاختلافات.
يعتمد جيجك في فهمه للكونية على إرنستو لاكلو. في كتابه «الذات الحساسة The Ticklish Subject»، يعتبر جيجك الكونية «دالاً فارغاً»؛ مساحة متنازعاً عليها، تتصارع فيها القوى السياسية لتحديد ما يُعتبر كونياً. الكونية ليست محايدة ولا ثابتة، بل تُنتج من خلال صراع مستمر. وبدلاً من التخلي عنها، يؤكد جيجك ضرورة تعميقها بشكل جذري، واعتبارها ميداناً للسياسة التحررية، التي تظل دوماً ناقصة ومنفتحة على إعادة تعريف مستمرة.
في الجمهورية التركية، اتسم الخطاب الرسمي للكونية – سواء تمثل في القومية العلمانية الكمالية أو في المواطنة الديمقراطية الليبرالية – بادعائه التاريخي احتواء جميع الخصوصيات تحت هوية واحدة متجانسة، هي «التركياتية». ويُعد هذا مثالاً آخر على الكونية المُجرّدة، التي تفرض ذاتها عبر محو الاختلاف؛ إذ يُعامل الكرد إما كـ«أتراك جبليين»، أو كمواطنين عاديين يُطلب منهم كبت هويتهم الخاصة لتنسجم مع القالب الكوني التركي.
لكن فشل هذا المشروع ذاته، كما يتجلّى في المقاومة الكردية المستمرة، والبقاء الثقافي، والنضال السياسي، يُبيّن أن هذا المفهوم للكونية ليس كونياً بحق. فهو مشحون بتنافر داخلي، وقمع يرتدّ في شكل تناقض.
استناداً إلى كتابات أوجلان، تكشف الحركة الكردية، التي يُحرَم أفرادها باستمرار من الاعتراف بهم كفاعلين سياسيين «شرعيين» من قِبل الدول والقوى العالمية، عن هذا الغياب البنيوي الكامن في صميم الكونية. وبدلاً من اعتبار هذا الإقصاء نقطة ضعف، يحوّله الحراك إلى مصدر قوة؛ فمن خلال احتلال موقع المُستبعَد، لا يتحدث باسم الكرد فحسب، بل باسم كل من حُرموا وهُمِّشوا سياسياً تحت النظام القائم، ليُحقق بذلك شكلاً من الكونية التي تنبع من الهوامش لا من المركز
المجتمع الديمقراطي عند أوجلان
يتردد صدى هذا التفكير الجذري في مفهوم الكونية بقوة في فكرة أوجلان عن المجتمع الديمقراطي؛ إذ يتحدى مفاهيم الديمقراطية الليبرالية التي تتمحور حول الدولة والتي تُفرض من الأعلى، ويدعو بدلاً من ذلك إلى كونية جديدة تنبع من التجارب الحياتية للمجموعات المضطهدة: الكرد، والمرأة، والمجتمعات المهمشة. رؤيته للمجتمع الديمقراطي لا ترفض الكونية، بل تعيد صياغتها بمضمون جديد يشمل البيئة، والتحرر الجندري، والتعددية، والديمقراطية بمعناها الحقيقي، حيث يصبح المواطن فاعلاً في اتخاذ القرارات المتعلقة بحياته اليومية، لا مجرد تابع للأحزاب السياسية.
مثل جيجك، يرى أوجلان الكونية مساحةً للنضال؛ إذ يعارض مفهوم الكونية السائد المرتبط بالدولة القومية والرأسمالية النيوليبرالية، ويقدّم نموذجاً جديداً متجذراً في حركة الحرية الكردية. وبهذه الطريقة، تتحوّل التجربة الكردية إلى شكل من أشكال الكونية الملموسة، لا من خلال تقليد أشكال السياسة السائدة، بل عبر كشف حدودها وتقديم بدائل تستند إلى التنافرات الحقيقية.
في كتابه «الأناركية بعد الندرة Post-Scarcity Anarchism»، يجادل موراي بوكشين، الفيلسوف السياسي الذي أثّر في فكر أوجلان، بأن اليسار التقليدي، رغم التزامه البلاغي بالديالكتيك، فشل في التعامل بجدية مع مفهوم هيغل لـ«الكوني الملموس»، ليس كمفهوم فلسفي فحسب، بل كأساس لبرنامج اجتماعي يهدف إلى التغيير. وبحسب بوكشين، فإن هذه الرؤية لم تُطبَّق فعلياً إلا في كتابات ماركس المبكرة، وفي الأعمال اليوتوبية لفلاسفة مثل فورييه وويليام موريس، وفي العصر الحديث من خلال حركات الشباب المنسحبة التي رفضت المعايير الاجتماعية السائدة.
غالباً ما يقول جيجك إن الكونية تفتقر دائماً إلى صورتها الصحيحة، أي أنها لا تظهر بشكلٍ مكتمل، بل تنبثق من خلال نضالات خاصة تتحدى النظام القائم. واستناداً إلى كتابات أوجلان، تكشف الحركة الكردية، التي يُحرَم أفرادها باستمرار من الاعتراف بهم كفاعلين سياسيين «شرعيين» من قِبل الدول والقوى العالمية، عن هذا الغياب البنيوي الكامن في صميم الكونية. وبدلاً من اعتبار هذا الإقصاء نقطة ضعف، يحوّله الحراك إلى مصدر قوة؛ فمن خلال احتلال موقع المُستبعَد، لا يتحدث باسم الكرد فحسب، بل باسم كل من حُرموا وهُمِّشوا سياسياً تحت النظام القائم، ليُحقق بذلك شكلاً من الكونية التي تنبع من الهوامش لا من المركز.
نموذج المجتمع الديمقراطي يدعو الكرد وغيرهم إلى إعادة تعريف «نحن» عبر خلق أشكال جديدة من الذاتية الجماعية والمجتمع السياسي تتجاوز الانقسامات، نحو هوية تُحرّر ولا تُقيّد
من الخصوصية إلى الفرادة
يضيف باديو تمييزاً مفيداً بين «الخصوصية Particular» و«الفرادة Singular»؛ فالخصوصية تندرج ضمن الفئات القائمة، مثل الأمة، أو العِرق، أو الدين. أما الفرادة، فتتجاوز هذه الأطر وتفتح الباب أمام إمكانية نشوء شيء جديد.
ويُعد تحوّل أوجلان من القومية إلى المجتمع الديمقراطي مثالاً واضحاً على هذا التحول؛ إذ يرفض تعريف النضال الكردي من خلال هوية ثابتة أو عبر السعي إلى إقامة دولة. وبدلاً من ذلك، يقترح رؤية سياسية كونية تشمل الجميع، وتتجاوز الحدود والجوهرانية القائمة على العِرق.
هذا لا يمحو الهوية الكردية، بل يرفض حصرها في فئات جامدة. وبالنسبة لباديو، فإن هذا هو ما يسميه «إجراء الحقيقة»؛ حدثٌ سياسي يزعزع النظام القائم ويدعو إلى طريقة جديدة في الوجود والفعل.
ينبع رفض أوجلان للدولة القومية ومشتقاتها، مثل الفيدرالية والحكم الذاتي الإداري والحلول الثقافوية، من اعتقاده بأنها جميعاً مقيدة بالخصوصية والإقصاء. وهذا لا يعني التقليل من نضالات الكرد وإنجازاتهم، بل يشير إلى دعوةٍ لعملية تحوّلية تتجاوز مجرّد إدارة الاختلاف، لتُعيد تعريف كيفية تعايش الناس سياسياً، والتعبير ديمقراطياً عن هويتهم بشكل كامل وجذري.
بمصطلحات باديو، تُعدّ رؤية أوجلان حدثاً سياسياً فريداً، لا يهدف ببساطة إلى التوفيق أو تحقيق التناغم بين الهويات القائمة (مثل الكردية، والتركية، والعربية، وغيرها) ضمن النظام السياسي القائم، بل يُعيد ترتيب مفهوم الهوية ذاته، من خلال تحدّي التصنيفات والانقسامات التي تُحدد هذه الهويات في الأساس.
يقطع الحدث الفريد الذي يمثّله أوجلان مع أنماط الحلول القائمة على القوموية والخصوصية، من خلال نموذجه الجديد للمجتمع الديمقراطي. إنه نموذج سياسي بالمعنى الأعمق، لأنه لا يكتفي بإضافة الهوية الكردية إلى قائمة الأقليات المعترف بها، بل يغير شروط الوجود السياسي ذاتها. ومن خلال تجاوزه للهويات الثابتة، يفتح أفقاً كونياً جديداً، لا تُختزل فيه الانتماءات السياسية في الفئات العرقية أو القومية، بل تقوم على إعادة تصوّر شامل وديمقراطي للعيش المشترك.
عملياً، تدعو هذه الرؤية الكرد وغيرهم إلى المشاركة في عملية سياسية تعيد تعريف مفهوم «نحن»، ليس من خلال التفاوض على تسويات بين مجموعات ثابتة، بل عبر خلق أشكال جديدة من الذاتية الجماعية والمجتمع السياسي تتجاوز الانقسامات القديمة. إنها نقطة تحوّل تفتح المجال أمام مستقبل يتخطى الاستبعاد والإقصاء، حيث لا تكون الهوية قيداً، بل نقطة انطلاق نحو تحرر ديمقراطي أوسع.
فلنأمل أن تتحقق أمنية أوجلان؛ أن نرى في يوم ما أوجلان وجيجك وباديو، إلى جانب العديد من المفكرين العالميين الآخرين، تتحد جهودهم المشتركة بشكل تضامني للمشاركة والعمل الجماعي من أجل بناء اشتراكية ديمقراطية حقيقية.
جهاد حمي: كاتب مقيم في ألمانيا. يدرس الأدب الإنكليزي والأمريكي في جامعة هامبورغ. تم نشر كتاب له باللغة الإنكليزية مؤخراً بعنوان «ROJAVA IN FOCUS: CRITICAL DIALOUGES» بالاشتراك مع البروفيسور توماس جيفري مايلي.